حوار الانتحار
غزل حسين المصطفى:
الثالثة صباحاً، كان البرد يزيد جمال الفراش الدافئ ويُغريني بساعات نوم أكثر، حين سمعت أخي يُتمتم بعبارات تُعبّر عن غضبه، صارعتُ بجهد حتى استطعتُ النطق بسؤالي: (علي… شُبك؟). وبصوتٍ ناري وغضب واضح نطق خبره ففرّ النوم هارباً مني بعيداً عن حدود سريري.
(لقد استشهد والد أصدقائي… هي الظروف المرّة البشعة التي تُحيط حياتهم وترعاها بكل بغض ما كان ينقصها إلاّ أن يفقدوا والدهم!).
وأضاف: ( يعملان بالتناوب في محل تجاري، حتى يتسنّى لهما مواصلة التعليم في كلية الهندسة… غزل، أتدركين القبح الذي اكتسته الحياة في وجهي منذ الصباح، من أين سنجد فسحة أمل أو طاقة أحلام غير عقيمة، نكافح وندرس ونتجرّع كؤوساً مختلفة من الظروف سواء اقتصادية، نفسية، وحتى داخل حرم الكلية، لن أستفيض بالشرح فأنتِ تُقاسمينني المشاقّ كل يوم، ولكن بعد كل ذلك قد نفقد السيطرة على مكابح القيادة ومقود التحمّل، اليوم ماذا ينتظر أصدقائي!؟
سيُصبح كلٌ منهم مسؤولاً مباشر عن منزل بأكمله، وعن إخوة مازالوا في مراحل تعليمهم الأولى، فضلاً عن الخدمة الإلزامية والظروف وإيجار المنزل …إلخ.
أقسم أن مجرّد التفكير في التفاصيل يجرُّ الإنسان نحو نهاية واحدة وهي الانتحار، وهنا سينتهي كل شيء… كل شيء).
اعتدلتُ في جلستي وكان عليَّ أن استل الكلام المناسب لأُطفئ لهيب عروق أخي الشّاب المشتعلة.
(عزيزي علي، أنت تتحدّث عن الانتحار! أين التحدي والإرادة! الحياة مازالت أمامك تُشرّع أبوابها بحب، فلا تعبس بوجهها… مازلنا في ساعات الصباح الأولى يا صباح الخير!).
أجاب: (تُدركين فعلياً أني لا أقصد المعنى الفعلي للانتحار، وأقصد مجازاً التسلل بعيداً عن مشّاق الحياة…).
انتهى الحديث بيننا هنا، بعد أن أخبرني بمخططه لذلك اليوم.
ورغم ما كنتُ أتحدث عنه من دفء الفراش ولذّة النوم لم تستطع جفوني العودة مُجدّداً لوضعية الاستسلام المُطلقة للكسل، وتملّكني تفكيرٌ عميق ومتواصل بحال شباب مجتمعي على الأقلّ ولن أطوف البلدان المجاورة وأتقصّى أمورهم، ألا يكفيني ما أسمعه وأشاهده وأعيشه في كل لحظة أنا وأبناء جيلي؟
الانتحار ليس وسيلة، وليس هو الحل، ولكننا بتنا نرى أنه سبيلٌ مختصر يرى فيه الشّاب خلاصاً أبدياً، هناك سيقبر أحلامه وهمومه ومشاكله، لن يكون الوضع الاقتصادي الصعب وما يرافقه من ارتفاع أسعار وانعدام فكرة الزواج والاستقرار، فالفرد غير قادر تقريباً على تأمين متطلباته أو أدنى الحاجات الأساسية حتى يصبح مسؤولاً عن عائلة، كما تتصيّد الكُثُر فكرة الإعالة للوالدين فتصبح المسؤوليات مضاعفة، دون أن نُغفل أن هناك طيفاً من الأحلام غير المحقّقة تقضُّ المضاجع وتُدمي القلوب، فلم يكتب لها تاريخ تحقيق لكنها مرهونة بتاريخ صلاحية ينتهي بعضها مع صدور نتائج الثانوية العامة، وربما بعد أن يتخرّج الفرد ليُصبح مُعلقاً مع شهادته بوصفهما (ديكور للمنزل) فسوق العمل لا يستوعب أعداد الخريجين أو لم يؤمّن بعدُ الفرص العملية التي تتناسب مع الأقسام الجامعية التي تنبثق عن أخرى.
وهنا تذكّرتُ، وماذا عن والد تلك الفتاة الذي كَسَرَ قلب شاب يوماً ما وأعاد قراءة سيناريو المصاعب والمتاعب بأكمله، ويختتم حديثه بمقارنة مُفصّلة مع شاب آخر سيحمل ابنته للاستقرار، وعلى هذه النقطة دام الصراع طويلاً بين قلبي مُرهف المشاعر وعقلي وأحكامه الصارمة، فقد يقول قائل: كل الأطراف على حق وحدها الظروف هي الجلاد الأقبح.
بقيت الأسباب المؤدية للانتحار واليأس تُزاحمني طوال النهار ما بين كرٍّ وفرّ، كان ذلك الصباح يَعُجُّ بالمتناقضات والمشاكل المختلفة، ولكن بدايته كانت مُبكّرة جداً ممّا جعله النهار الأطول ما جعلني أسعى لأن ينتهي مُبكّراً حتى أنني خلدت لسريري السادسة مساءً، ولكن..
ماذا عن نهاية صراعاتنا!
ماذا عن نهاية الظروف والإحباط!؟