صدمة ما بعد التخرج
مرح محمد نبيل السمكري:
ربما كانت تضيق السماء أحياناً بهذه الأحلام، كانت أحلامي كبيرة جداً، إلى الحدّ الذي لا يتّسع له ورق هذا الكون ولا قوالب الحروف والكلمات.
بعد هذه السنوات القليلة، أيقنتُ أن أغلى ما يملكه الإنسان هو الحلم، فالحلم أثمن من الذهب والياقوت، متعة أن تغمض عينيك فتعيش نشوة الوصول، بلحظة تتبدّد كل المشاكل، وتعيش تفاصيل حياتك الافتراضية، من دون أدنى منغّصات، تصل إلى أهدافك بغضّ النظر عن الفشل والانتكاسات، ومن دون اعتبار لأيّ سقوط وارتداد، في الأحلام نجاحٌ فحسب، وصول فحسب، سعادة فحسب.
كأيّ فتاة متفائلة، اندلعت الحرب في بلادها وهي في الخامسة عشرة من العمر، كانت تحلم بأنها ستفرض لحنها المتماسك وسط النشاز الصاخب المنتشر، وكانت أوج فترة الأحلام في السنة الأولى من الجامعة، حلمت بالتغيير، بالتطوير، حلمت بتحقيق ثروة خاصة بي من دون مساعدة أحد، حلمت أن أكون قدوة ناجحة، وأيقونة مؤثّرة بالسيدات، لكن كانت كل أحلامي مؤجّلة إلى ما (بعد التخرّج) وكنت على يقين بأن هذه الأهداف ستتحقق بمجرد لمسي لورقة الشهادة الجامعية، كنت مؤمنة أني استثنائية وسأحصل على الفرص الخيالية بمجرد كوني أنا.
عملت على تطوير مهاراتي طيلة فترة الدراسة في الجامعة، حاولت التعلّم في شتّى المجالات، وخوض شتّى التجارب والوظائف، حتى أحصل على فرصتي الكبيرة بعد التّخرّج، وبعد مضيّ السنين الأربع، أتت اللحظة المُنتظرة، وصدرت نتائج آخر مادة لي في الجامعة بنتيجة النجاح وبمعدل ممتاز أيضاً، وأتى موعد السؤال: وماذا الآن؟
في الحقيقة كانت فترة ما بعد التّخرج مرحلة مخيّبة للآمال، لم تتحقق الأماني، لم أُغيّر العالم، لم أكن قدوة، حاولت جاهدة التشبّث بأحلامي، فاصطدمت بمرارة الواقع بقسوة، اصطداماً جعلني أصحو من أحلام تلك الفتاة المتفائلة، اصطداماً تركني على حافّة اكتئاب من مرارته.
لو تعلمون مرارة أن تتقدم لوظيفة، فتُرفض لأنك لا تملك خبرة، أنت في نظرهم شخص لا يكفي، بكل نجاحاته لا يكفي، بكل سقطاته ووقفاته لا يكفي، بكل أيام سهره خلف الكتب والدفاتر والأوراق البحثية لا يكفي، والسنوات التي قضاها في محاولة تطوير نفسه ما هي إلاّ محاولات فاشلة.
تقلدت عدة وظائف في هذه الفترة، لكنها لا تشبهني، لا تشبع جوع أهدافي، لدرجة أصبحت فيها أستلم وظيفتي لكني لا أُخبر مخلوقاً بأني توظفت، لأني على دراية تامة أني لن أمكث فيها أكثر من أسبوع، وفي هذه الفترة القاسية التي لا تتجاوز السنتين تعلمت كيف تُعاش الحياة الجامعية، وتمنيت أن يرجع بي الزمان بضع سنوات لأُصلِح ما فعلت.
طوال هذه الفترات كنت على قناعة بأنه من الطبيعي ألاّ تعرف ماذا تريد وأنت في مقتبل العمر، لأن الجواب على سؤال (ماذا أريد) من الأجوبة الصعبة التي تحتاج إلى سنوات طويلة حتى تستطيع صوغ كلماتها، وطبعاً هذه النظرية خاطئة نوعا ما، فكلما وضعت أمامك خيارات أكثر، زادت فترة بحثك عن نفسك أكثر، حاول أن تُحدّد ماذا تريد بدقة، وضَع هدفك بين عينيك، ردّده كل خمس ثوانٍ، لا تتغافل عنه ولا لحظة، كُل لكي تقوى على تحقيقه، نم لتحلم به ليلاً، اتعب لنيله، هكذا فقط تتحقق الأحلام بجدارة.
حاول أن تحصل على المهارات الأساسية، مثل اللغات التي تحتاجها، والمهارات الحاسوبية بشكل قوي قبل خروجك من الجامعة، إذا أقدمت على تعلّم مجال معيّن، تعلّمه بقوة، بكل تفاصيله وحيثياته، بكل حالاته التي لم تخطر لأحد، أتقنه من كل جوانبه وابلغ به مرحلة العلم والاحتراف، وبعد ذلك انتقل إلى المجال التالي، أما انتقالك من مجال إلى آخر بقطف بعض المعلومات من كل واحد منها فهذا ليس إلاّ مضيعة للوقت.
مع كل ما مضى، فأنا ما زلت أحلم، وسأبقى أحلم إلى آخر حياتي، إلاّ أن منهجية التنفيذ هي التي اختلفت، ومنذئذٍ اختلفت حياتي ونسيت صدمة ما بعد التخرج.