هل سنبقى ألعوبةً بيد الغرب الاستعماري؟!

سامر منصور:

تقول أمانينا والنزعة الإنسانية فينا: لا! وتقول المعطيات الواقعية: نعم!

تناول كثيرٌ من المفكرين والأدباء العرب العيوب العميقة في الذهنية العربية، التي تُشكّل عقباتٍ أمام نهضة عربية شاملة، وتتشابه هذه العيوب بين جلّ بلدان الوطن العربي، ومن الأدباء والفنانين من تناولها بشكل ساخر كرسام الكاريكاتير العالمي رائد خليل، وكالكاتب محمد الماغوط والشاعر نزار قباني وزياد الرحباني وغيرهم كثير كثير. ومن قبيل التذكير سأُعرّج في هذا المقال على ما أعتقد أنه من عوامل السقوط الحضاري العربي:

أولاً_ مصادرة الفرص: لدى كل أمّة إمكانات وطاقات فكرية وإبداعية، وكلّما كان حجم الأمة أكبر، وكلما توافرت أرضٌ ثرية بالثروات والموارد الطبيعية والخيرات المتنوعة التي تضمن حياة كريمة للناس، وجب تفوّق هذه الأمة بعطاءاتها على الأمم الأصغر التي تعيش في أراضٍ فقيرة بالثروات الطبيعية وعلى أطراف العالم، بمعنى أنها ليست طريقاً رئيسياً لحركة التجارة العالمية كبريطانيا واليابان على سبيل المثال. ولكن السؤال لماذا نجد دولاً تتمتّع بكل مقومات الدول العظمى، ودولاٌ لا وزن لها في الميادين العلمية والفكرية والتقانية والصناعية، وإذاً لا وزن سياسياً لها مهما تبجّحت بأنها ذات قيمة؟ إنها الإدارة، فكما أن دول أفريقيا هي من أثرى دول العالم بكل أشكال الموارد الطبيعية من ثروات زراعية وثروات باطنية وطاقة بشرية ومساحات شاسعة إلاّ أن إفريقيا كانت ومازالت أرض المجاعات والفقر المدقع والبؤس. استطاعت بعض الدول الإفريقية فقط، كدولة جنوب إفريقيا على سبيل المثال، أن تشكّل نموذجاً مشرقاً من النواحي الاقتصادية والتعليمية والرعاية الصحية وغيرها بفضل إدارة حكيمة لأجهزة الدولة، فسبحت عكس تيار الجهل والحروب والتخلف الذي تعيشه معظم إفريقيا.

ثانياً_ لأن الشعوب العربية مُهيّأة سيكولوجياً للإذعان للعسكر: إن الوضع السائد ما قبل استقلال الدول العربية التي خضع معظمها للاحتلال لفترات طويلة استمرت قروناً جعل نسبة جيدة من العوام معتادين على العيش بلا عدالة اجتماعية، وحيث السلطة تساوي التسلّط، وحيث رجال الدولة هم طغاة من رتب ودرجات مختلفة، حتى أبناء البلد من أفراد الحكومات والسلطات العربية التي تعمل في ظلّ الاحتلال وتحت إمرة المستعمر الأجنبي كانوا يضطهدون الناس، وبما أن السلطات العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال جاء معظمها كحالة تسلّق على دماء الشهداء وعلى جهود الشخصيات الثورية عبر مرحلة لاحقة من الانقلابات، وعلى ظهور الدبابات وعبر تصفية واعتقال زملائهم من قيادات فكرية وسياسية في الأحزاب والحركات والتنظيمات ذاتها التي كانوا ينتمون إليها، وقامت العلاقة بينهم وبين شعوبهم وبين القوى السياسية الأخرى في بلادهم على أساس الخوف المتبادل، ومن هنا برز أهم عامل من عوامل إجهاض النهوض الحضاري، إنه مبدأ الاستزلام، الاستزلام على حساب التنافس المنصف والتجديد: إن كفاءة أي دولة في العصر الحديث تقاس بكفاءة أداء مؤسساتها، والأداء المؤسساتي يتطلّب الموضوعية، بمعنى التعامل مع خطط ومنهجيات ومعايير ومخططات بيانية وتفعيل آليات عمل العقل من مقاربة ومقارنة وتفاضل وتكامل واستقراء واستدلال واستشراف.. الخ، وتجديد العناصر الميكانيكية والتكنولوجبة والبشرية بما هو أفضل وأجدى، بهدف الارتقاء بأداء المؤسسة. بينما تقوم الأنظمة العربية على الاستزلام، حيث الولاء وليس الكفاءة هو المهم، ولا يُقصد بالولاء الانتماء الوطني وإنما الولاء للزمرة الحاكمة، فكم وكم من مسؤول عربي فاسد يعلم الجميع بفساده، أو رئيس مافيات تهريب آثار وتجارة مخدرات بقي في منصبه رغم كل الضرر الذي تسبّب به للبلاد، وبمجرد أن أعلن خلافه مع الزمرة الحاكمة أو اصطدم مع زعماء مافيات أكثر قوة منه من رجال السلطة، استيقظت فجأة الأجهزة الأمنية تعلن أنه غير وطني وفاسد1 وفجأة وبين ليلة وضحاها باضت أدراج المسؤولين الرقابيين ملفات فساد وثبوتيات بحجم بيضة الديناصور، وأخذت تُفرّخ فضائح تلو الفضائح له ولأبنائه، ويتبارى أعضاء مجالس الشعب بعرض ملفات فساد ذلك الذي كانوا يتسابقون لالتقاط الصور معه وتقديم الهدايا له والتقرّب منه !!

يجري تقييم الموظفين والمسؤولين في مؤسسة أو في جهاز ما من أجهزة الدول المتقدمة، وتقديرهم، وترقيتهم، بناء على إنجازات وعوامل موضوعية، بينما يجري ذلك لدينا بناء على تملّق رأس المؤسسة والتقرّب منه، وبناء على شبكة علاقات شخصية ومبدأ التبعية والاستزلام، ويجتهد العرب في (تمسيح الجوخ والتطبيل)، فيتراجع العامل الموضوعي لصالح العامل الشخصي، ويأتي المسؤول العربي إلى منصبه بعد جهد في كتابة التقارير الكيدية فيمن سبقه، ويتنكّر لجهوده ويلغي خططه ويقلّل من شأنها، ويدّعي أن المؤسسة أو الجهاز الحكومي في الحضيض وأنه المُخلّص الذي سينهض به، بينما يتّخذ العمل المؤسساتي في الغرب المتقدّم منحىً تكاملياً، ولا يوجد هوس بالتفاضلية لدى القيادات بغيّة التّرقي إلى مناصب أعلى.

نحن لا نسمع بمسؤول عربي استقال، ذلك أن النخب العربية هاجرت منذ زمن بعيد، ومن بقي منها لا يخوض في هُراء اللهاث والتنافس على الكراسي، وبالتالي لم يبقَ سوى الصغار الذين يستمدون قيمتهم من الكراسي، لذلك يتشبثون بها ويسيئون إلى أيّة كفاءة يمكن أن تنافسهم، وهناك نمط آخر يتشبّث بالكرسي لأنه أمضى سنواته الأولى جالساً عليه يجمع ثمن وصوله ليدفعه لمافيا القرار والسلطة التي أتاحت له الوصول. وتكمن خطورة الاستزلام في أنه يضع الأزلام فوق القانون، وهم يشكلون غطاء للكثير من كبرى الممارسات الفاسدة.

ثالثاً_ عدم وجود نقد وتفنيد: في الدول العربية ذات النظام الملكي معظم المسؤولين أمراء أو من أقرباء العائلة المالكة، ولا أحد يجرؤ على نقد أدائهم، ولا جدوى من نقدهم. وفي الدول العربية ذات الأنظمة الجمهورية والبرلمانية، يوجد حزب حاكم غول قضم وابتلع وسحق أحزاباً أخرى حتى وصل إلى حجمه وتغوّله، وكل المسؤولين في المؤسسات الخدمية والإعلامية والرقابية جاؤوا منه وهم زملاء فيه، وبالتالي لا دور للإعلام في انتقاد الأخطاء بعمق، وإنما ينتقد ضمن هوامش معيّنة، فهو إعلام الحزب وتلك مؤسسات الحزب، ولا أحد يقول عن نفسه فاشل أو عن زيته عكر، خاصة إن كان الحزب يتبنى مبدأ أنه (المخلّص) العظيم.

وأخيراً.. وضع يسوع المسيح مقولة حاسمة للتفريق بين من يجعجع ومن يصنع الطحين.. حين قال: من ثمارهم تعرفونهم، ولم يقل: من شعارهم تعرفونهم!

العدد 1102 - 03/4/2024