المتاهة
د. احمد ديركي:
عندما كنا صغاراً كانت هناك لعبة في بعض الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية، وكنا مولعين بها، اسمها (المتاهة). تكون في الغالب بشكل مربع له مدخل واحد في طرف منه ومخرج واحد في طرفه الآخر. عند المدخل رُسم فأر، وفي داخل المربع متاهة وطرقات معظمها لا تصل إلى المخرج، وهناك طريق واحد فقط يؤدي إلى المخرج. كنا نمضي الكثير من الوقت محاولين إرشاد الفأر إلى المخرج، وفي بعض الأحيان تكون الطريق معقدة وصعبة، فنعمد إلى الغش فنبدأ من المخرج للوصول إلى المدخل. عملية الغش هذه لا تعني أننا نوفَّق في كل الأحيان.
قد يتساءل المرء: أين أصبحت هذه اللعبة الجميلة بالنسبة لنا؟ بشكل مختصر أعتقد انها أصبحت لعبة إلكترونية (تطورت) من الورقية إلى الإلكترونية بغض النظر ما إن كان تطوراً إيجابياً ام سلبياً.
لكنها لعبة، إن كانت ورقية أو إلكترونية، تنطبق على واقع اقتصاد بلادنا العربية! تعيش الشعوب العربية ضمن أنظمة اقتصادية وسياسية ولا اجتماعية لأسباب لن نخوض غمارها الآن.
من المتعارف عليه ان النظام الرأسمالي ولد مع الثورة الفرنسية، ففي بيانها أعلنت عن موت الإقطاعية، وان كانت بريطانيا من احتضن وربى هذا الجنين الرأسمالي، لأن مسقط رأسه كان في هولندا. مع لحظ انه عند قول (نظام رأسمالي) فلا يعني هذا نظام اقتصادي فقط، بل نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي. نظام انتشر وعم معظم الدول الأوربية ومن ثم انتشر إلى بقية أصقاع العالم وفكك إمبر اطوريات كبرى حتى يمكن القول (لقد انتهى عصر الإمبر اطوريات). ومن ثم أتت الثورة البولشفية عام 1917 المتأثرة بالفكر الماركسي وحاولت إنشاء نظام نقيض للنظام الرأسمالي عُرف بالنظام الاشتراكي. أيضاً مع لحظ أنه عند قول (نظام اشتراكي) لا يعني هذا فقط نظام اقتصادي، بل سياسي واجتماعي أيضاً. ومن ثم تبنت بعض من بلادنا العربية هذا النظام متخلية عن الرأسمالي.
انهار الاتحاد السوفياتي فتحولت العديد من بلادنا عن نظامها الاشتراكي وما زال جزء يسير منها يحافظ على بعض متبقيات هذا النظام.
لأن النظام الرأسمالي نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي، فأين نحن منه؟ ولأن النظام الاشتراكي نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي، فأين نحن منه؟
هنا جوهر المتاهة، إن نظرنا إلى أنظمة بلادنا سواء تلك التي تبنت الرأسمالية أو التي تبنت الاشتراكية. لذا حتى تاريخه منذ نشوء بلادنا ونتيجة الأسباب التي أدت إلى نشوئها لا نعرف ما طبيعة أنظمتنا الاقتصادية، فلا هي رأسمالية ولا هي اشتراكية كي تُحدد هوية نظامها السياسي. فأنظمتنا السياسية لا هي ملكية ولا إمبر اطورية ولا قبلية ولا جمهورية… ولا هوية مجتمعية لها، فمجتمعاتنا لا هي (أبوية) ولا (عائلية ممتدة) ولا (إنتاجية)…
جلّ ما يمكن قوله إن تشكلات أنظمتنا الاقتصادية لم تولد لتكون متلائمة مع البنى السياسية والاجتماعية الموجودة فيها، تتطور مع تطورها السياسي والاجتماعي، بل هي ما يمكن أن نصفه بـ(نمط الإنتاج الكولونيالي)، كما وصفه مهدي عامل. بعبارة أخرى يمكن القول إن أنظمتنا الاقتصادية عبارة عن (رأسمالية مشوهة) أو (اشتراكية مشوهة)، وهذا التشوه أدى إلى تشوهات سياسية واجتماعية. لذا يمكن القول إننا مازلنا في بداية المتاهة ولكي نعرف الطريق الصحيح للخروج، وإن كان في الغش، لا بد بداية من معرفة واضحة لا كاذبة منمقمة لطبيعة اقتصادنا لنصل إلى حلول جذرية لأزماتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
فهل نحن أنظمة تبعية؟ أم ريعية؟ أم رأسمالية مشوهة؟ أم اشتراكية مشوهة؟ أم إقطاعية؟ أم خليط من كل هذا؟!