انفض ثيابك وأكمل السير

مرح محمد نبيل السمكري:

عندما غابت أُمّه عن المنزل، أصبح بيته مُعتماً، فظنّ أنها مشكلة تقنية في الإنارة، لكن حتى بعد تبديل المصابيح ظلّ المنزل معتماً لمدّة خمسين عاماً، لقد أدرك السبب الحقيقي، أدرك أن غياب أمه غيّب النور من عينيه، وجعل كل الألوان باهتة، جعل بيته يشبه الغابة المظلمة والمهجورة، لقد بقي طوال سنين حياته يتعطّش لعبارة (دير بالك على حالك)، ولدعوة صادقة بالتوفيق والسعادة، من بعد أمه صارت وجبته باردة، ولباسه مُتّسخاً، وأغراضه مبعثرة، حاشى أن تكون الأم مجرّد شخص يُسخّن الطعام ويكوي الملابس، لكنه الشخص الوحيد الذي يهتم بتفاصيلك إلى هذا الحد، الشخص الوحيد الذي يعاملك كأمير يجب إرضاؤه طول الوقت.

بعد غياب الام تتدمّر حياتك داخل المنزل، منزلك الذي تهرب إليه لترتاح من العالم الخارجي يُصبح موحشاً ومرعباً، لكن بعد غياب الأب تتدمّر حياتك خارج المنزل، تصفعك الحياة كفوفها مراراً وأنت لا تملك ظهراً قوياً تستند إليه، لا تملك خبرة في مواجهة الأقدار القاسية، تصبح عرضة لتوّحش البشر من دون أن ينقذك أحد، كل تفصيلة سيئة في حياتك تعزوها لعدم وجود أب بجوارك، كل فشل، كل شجار، كل حفرة تقع بها تشعر أنه لو كان أبوك بجوارك لردم لك كل الحفر وأنار لك الطريق، وحملك على كتفيه ومشى بك.

أما عندما تُحرم من الأبناء، فتتدمّر حياتك داخل المنزل وخارجه، تتكدّس مشاعر الأمومة أو الأبوة في قلبك من دون أن تجد سبيلاً للخروج، فيتعفّن داخلك وتتحوّل الحياة إلى محطّة من الحزن والحرمان.

هكذا هي تفاصيل الحياة عند غياب أحد أركان الأسرة (الأم، الأب، الأبناء) مثل بناء ينقصه عامود، لكن هل بجانب كل هذا الأسى منحىً إيجابي؟ نعم بالتأكيد، لقد قابلت الكثير من الأشخاص المُميّزين في حياتي، والذين تتجاوز نجاحاتهم عمرهم الصغير، فوجدت في أكثرهم غياب أحد أركان العائلة، عرفت حينئذٍ أن الضعف يولّد القوّة، وأن الانكسار يولّد التمرّد، فحين تجد نفسك بلا سند، تجد أمامك خيارين، الأول هو أن تعيش مع ضعفك على هامش الحياة، والثاني هو أن تتمرّد وتستند على نفسك مؤمناً بأنك الأقوى في هذا العالم، وبذلك لن يقوى عليك أحد، أتذكّر تماماً كلمات أبي عندما كان ينصحني قائلاً: إذا سقطتِ يوماً، إياكِ والبكاء، إياكِ والجلوس على الحواشي وأنت تنتحبين، انفضي ثيابكِ جيداً بعد السقوط وتابعي سيركِ بسرعة، وحتى لو كنتِ مُتألّمة… تابعي المسير!

ولمتابعة الطريق بالشكل الصحيح سبب آخر يتمثل بأن الركن الباقي (الأم في غياب الأب والعكس) يأخذ دوراً مضاعفاً لينشئ طفلاً متوازناً لا يشعر بالفراغ الموجود في حياته، فيعطيه من الاهتمام ومن التربية والمحبة أضعافاً، يحرص على تعليمه وغذائه وأسلوب حياته لينشئ إنساناً سوياً حتى أكثر من ذلك الذي نشأ في كنف أم وأب ومنزل كبير إلا أنه يخلو من الدفء، كالمنازل التي تتغذى على الشجارات اليومية بسبب خلاف بين الزوجين، فينشئان طفلاً مهزوزاً متوتراً، أو كالطفل الذي نشأ ووالداه مشغولان بالسفر والأعمال وحصد الثروة لتأمين عيش كريم، ناسين أن هذا العيش يبدأ من قبلة على جبين طفلهم وعمر من الاهتمام والرعاية، أو آباء ينبذون أحد أبنائهم بسبب جنسه أو شكله أو تحصيله الدراسي، فيكبر الطفل وهو يؤمن بأنه أقل شأناً من أي كائن آخر.

إن غياب أحد أركان العائلة من الأمور القاسية والموجعة التي تترك ندبة لا تبرأ في قلب الإنسان، لكنها لا تعني انعدام الاستقرار، ولا تعني فشل الأبناء بالضرورة، بل تعني أنك أمام مواجهة جديّة مع القدر، وأنك إذا قاتلت في معركة الحياة بشكل محترف ستكتب من سيرة حياتك قصة نجاح.

العدد 1104 - 24/4/2024