نافذةٌ واحدة بإمكانها أن تفيدنا وتقلل من الخطر

إيناس ونوس: 

يأتي الطِّفل إلى هذا العالم مُحاطاً بشخصين هما كلُّ دنياه لاسيما في سنيه الأولى، يخلقان لديه الكثير من التَّوازن والاطمئنان الرُّوحيّين دون إدراكٍ منه بماهية ما ينمو بداخله، غير أنه يشعر به ويمضي من خلاله قدماً في حياته الجديدة، وتأتي المناهج المدرسية وطبيعة الحياة فتؤكد أن الأبوين هما جناحا هذا الطَّائر الصَّغير، وكي يتمكّن من التَّحليق بمفرده لاحقاً فهو بحاجة إلى وجودهما معاً، لا ينوب أحدهما عن الآخر، إذ لكلٍّ منهما دوره المهم والأساسي في تكوين هذه الشَّخصية وصقلها، فهي تريد، بشكلٍ بديهي، أن تكتسب وتكتشف وتنمو.

لا يخفى على أحدٍ أهمية وجود كلا الأبوين في حياة أبنائهما، بل وضرورته نفسياً وتربوياً واجتماعياً وروحياً، حتى حينما يتقدَّم العمر بالابن/ة وتحديداً في مراحل نموه/ا الحرجة كفترة المراهقة، أو في جميع النِّقاط المفصلية في حياته/ ا، ابتداءً بأول خطوة أول ضحكة وليس انتهاءً بالحصول على الشَّهادة أو بتأسيس أسرته/ا الخاصة.

الأسرة، هذا المفهوم الذي خضع مؤخراً لتغيُّراتٍ طالت جذوره وأساسياته، فبعد أن كان الشَّكل النَّمطي لها يقترن بوجود الأبوين والأبناء معاً، ما يُضفي حتماً شعوراً بالسَّعادة والاكتفاء العاطفي، باتت مُعرّضةً لأن تعيش فاقدةً لأحد أركانها الأساسية، أحد الأبوين،  بحكم العديد من العوامل سواء الاقتصادية التي تتجلَّى بغياب أحدهما بسبب ضرورة بقائه في العمل لساعاتٍ طويلةٍ من أجل تأمين مستلزمات الحياة الضَّرورية، أو الاجتماعية كالوفاة أو الطَّلاق الذي كثُر في السَّنوات الأخيرة بنسبٍ لم تُشهد سابقاً، أو ناتج الحرب وتبعاتها من موتٍ أو اختفاءٍ أو هجرة، ما أدى لأن يعيش الأبناء ويترعرعون مع أحدهما فقط، وعلى الأغلب مع الأم ــ مع وجود بعض الاستثناءات حين تتخلّى الأم عن فلذات أكبادها، ما يجعلهم يكبرون حاملين أفكاراً مفادها أن الحياة التي يعيشونها هي الشَّكل الطَّبيعي الذي يمنحهم ما يحتاجونه من عواطفَ واستقرارٍ روحي ونفسي، ممّا غيَّر في مفهوم السَّعادة الأسرية النَّمطي، وأمسى مختلفاً اختلافاً جذرياً عمّا كان سائداً، فصورة الأسرة السَّعيدة التي تربيّنا عليها جميعنا سابقاً ولا تزال قابعةً في أعماقنا، والمُتجسَّدة في نزهةٍ ترفيهيةٍ تجمع أفراد العائلة، أو سهرةٍ لطيفةٍ يحوم فها الجميع حول بعضهم البعض، هذه الصورة بدأت بالتَّلاشي في أيامنا هذه، ذلك أن الأسرة التي أُجبرت على خسارة أحد مكوناتها، لا بدّ أن تُكمل مسيرة الحياة بحلوها ومرّها، وبالتالي فهي تعيش اللحظات بكل ما فيها، ولربما كان ذلك الغياب ضرورياً للحفاظ على الصِّحة النَّفسية والعقلية والروحية لباقي الأفراد، كما يحدث في حالات الطَّلاق مثلاً، إذ ليس بالضَّرورة أن يُشكِّل انفصال الأبوين ما كان سابقاً يُحكى عنه من حيث حجم الأهوال النَّفسية التي تلحق بالأطفال، وكي أكون مُنصفةً، فمن الطَّبيعي أن يعيش الطِّفل حالةً من الاستهجان والتَّساؤل بأنه لماذا ليس كغيره من أقرانه الذين يعيشون بين والدين، إلاّ أنه حينما يكبر ويُدرك المُسبّبات التي جعلته يعيش هذا النَّمط الاجتماعي، وحين يمتلك ثقةً بنفسه وقدرةً على مواجهة الحياة والتَّصدي لها، ناجمين عن تربيةٍ سليمةٍ من طرفٍ واحد سيرى الأمور بمنظورٍ آخر.

وحين يستعيد بعض ذكرياته سيجد أنه لم ينقصه الكثير عن أقرانه، وأن السَّعادة والحب اللذين عاش بهما قد لا يكونا موجودين فيما لو عاش كغيره، فالحياة أم التَّناقضات، وتحمل الكثير من الفروقات والاختلافات بين حالةٍ وأخرى.

لا أؤيد هنا العيش بمعزل عن التَّكامل الذي تمنحه الأسرة المترابطة لجميع أعضائها، كما ولا أؤيد مخالفة طبيعة الحياة، إلاّ أني أرغب بالتوضيح أن وجود الخلل في بعض الأحيان يُشكِّل عامل وقاية لباقي أفراد الأسرة من مخاطر ربما كانوا عاشوها لو أن الخلل لم يحدث، على مبدأ ربَّ ضارةٍ نافعة.

مفاهيم عدّة في مجتمعنا باتت بحاجة إلى إعادة النَّظر فيها والتَّعامل معها بشكلٍ أكثر وعياً وتفهُّماً، ذلك لأن نماذج عديدة من النَّاجحين في الحياة العملية خرجوا من أُسرٍ نعتناها بالمُفكّكة، أثبتوا جدارتهم وامتلكوا من الثِّقة بالنَّفس ما لم يمتلكه الكثير أيضاً ممن نشؤوا في أُسرٍ مترابطة، ومن تلك المفاهيم التي لا بدّ أن تتغيّر وجهة نظر الإعلام بهذا الخصوص، إذ لا يزال إعلامنا بكل وسائله يصوّر الحياة ورديةً، بينما عليه أن يعكس الواقع كما هو ويُسلّط الضَّوء على هذه الشَّريحة ويعمل على نشر وعي مجتمعي يدعم التَّغيُّرات التي طرأت على المجتمع، فلا ضير من أن يصور سواء من خلال برامج الأطفال أو بباقي برامجه هذه الأسر القائمة على راعٍ واحدٍ على أنها جزء أساسي من المحيط المتكامل مع بعضه، وأنها من المُمكن أن تُثمر شخصيات متوازنة لحدٍّ ما إذا ما ابتعد التَّعامل معها عن الإطار السائد.  فلنُعِد ترتيب أوراقنا ومفاهيمنا، لنبني مجتمعاً أقلُّ خسارةً وأكثرُ توازناً روحياً، فنافذة واحدة تستطيع أن تؤمّن دفئاً وتُدخل بعضاً من الهواء النَّقي لأرواحنا في الوقت ذاته الذي تحمينا فيه من صقيع الخارج.

العدد 1104 - 24/4/2024