الأديب أيمن الغزالي  في مجموعته القصصية (أرض الشهوات).. قصص عن الرصاص والخبز والمقابر الضيقة

أحمد عساف:

في هذه المجموعة، الصادرة حديثاً عن دار نينوى بدمشق، سنقرأ أيمن الغزالي هنا قاصاً، وقد سبق أن قرأناه روائياً، في روايته (الساعد الغربي)، وناقداً في كتابه النقدي: (لذة القراءة في أدب الرواية).

كتبت كثير من الروايات عن الحرب في سورية، وقلة قليلة منها ما حفر عميقاً في الذاكرة وحقق لنصه الروائي الخلود، نادرة جداً تلك المجموعات القصصية التي صدرت كمجموعة معظم قصصها عن الحرب في سورية.

منذ العنوان سنجد أننا أمام عنوان لا يقدم مفاتيح نصوصه القصصية لقارئه، وفي الوقت ذاته يبدو أنه غير معني بأن يكون القارئ كسولاً، أو صديقاً مجتهداً يحبّذ الشراكة مع المبدع في الوصول إلى نول تنسل منه سجادة هذه الحكايا، لتنشر ألوانها على سواد الدمار والخراب والقذائف وجثث الموتى، والمبحرين عميقاً في سراديب الموت، ودهاليز شواطئ البحار، وذكريات القرى التي اندثرت أسماؤها مع أسماء ضحاياها.

أرض الشهوات، عنوان لا يمكن فك (شيفرته) بسهولة، وهو مفتوح على عدة احتمالات. بعد الانتهاء من قراءة هذه المجموعة، وحده القارئ اللماح سيعرف دلالة العنوان وترميزه وأبعاده. لسبب مهم وهو أننا لا نجد في المجموعة القصصية هذه قصة موسومة بـ (أرض الشهوات).

(يوماً سيعود وحده إلى البيت ليلاً، حاملاً معه نكهة الأسئلة وملوحة التلويحات الأخيرة والتعب والأسئلة التي ظلت معلقة على كتفيه طوال هذه السنين، دون أن يجد إجابة أو يجيبه عليها أحد .. جاراً خلفه كل ما علق في باله وذاكرته من مرايا تنطفئ كلها …).

على امتداد 301 صفحات من القطع المتوسط نقرأ قصص أيمن الغزالي بكثير من التأمل والحزن وكأننا أمام كاميرا فوتوغرافية أو سينمائية يقبع خلفها قناص ماهر، يلتقط المشهد لا كما هو، بل يضيف من سحر درايته ومعرفته وخبرته الحياتية بكيفية إلقاء القبض على الحالة موثقة بالمشهد الذي لا ينسى. منذ القصة الأولى (العتبة) ص – 11-

نحن أمام سيناريو، قصصي يبتعد قليلاً عن بعضه، لكنه يعاود الاشتغال على تكامل اللحظات المبعثرة هنا وهناك، لتكمل نسيج الحكايا بكثير من العناية والاشتغال، على مستوى السرد وعلى مستوى بنية الحدث ومحاولة تفتيته وتفكيكه ومن ثم العودة إلى إعادة بنائه بكثير من التعب. سنجد أيضاً ثمة اشتغالات ملموسة ومحسوسة في التركيب التراجيدي للبنية النفسية والروحانية والجسدية ( الجدة، والحفيدة، الرجل، والشاب الابن اليافع، والصبية الخارجة إلى الحياة مثلما زهرة تتفتح للتو). قارئ هذه المجموعة سيكتشف تلك الاشتغالات على أنها من نسغ الحياة ومن أصوات الرصاص وقهر الرغيف ورعب الحرب وكابوسها المغروس في صميم الفؤاد.

شخصيات قصص الغزالي، التي تكاد تتشابه في معاناتها وفي بعدها السيكولوجي وفي معاناتها وفي جغرافية وجودها، من حيث هي شخصيات من لحم ودم، إلا أن لكل منها كليتها وانفصال بعدها النفسي في بعض الأحايين عن شركائها في الوجع والألم والقهر والمعاناة. في قصص أيمن الغزالي منذ العتبة، إلى اليوم الأخير والأول، آخر قصص مجموعة (أرض الشهوات). منذ القصة الأولى (العتبة ) سنكتشف أننا أمام عتبة دالة للولوج إلى تراجيديا الأحداث في القصص الأخرى. (غادرتُ بلدي بعد أن تعبتُ، ولم أعد أستطيع تحمل كل هذا الألم المقيم. عندما قررتُ المغادرة، حاولتُ ألا  أسمح لأحد أن يثنيني عن قراري، حتى تلك الجدوى الضئيلة التي كانت ترافقني خلال بعض الأعمال الخيرية والإنسانية التي كنت أقوم بها مع مجموعة من الأصدقاء والصديقات). ص 11.

منذ العتبة الأولى أقصد القصة الأولى في هذه المجموعة، نحن أمام متتاليات من قصص تتقاطع مع بعضها في خطها العام ، لكنها في خصوصيتها وخصوصية حكايتها تختلف إلى حد ما.  في قصة الطريق إلى خربة الريحان، نجد معاناة الجدة مع دفن حفيدها الوحيد الناجي من تدمير منزلهم، بعد إسعافه ومن ثم موته بعد أشهر في المشفى بدمشق. (قال لها المسلح إنّ المقبرة لم تعد تتسع للموتى، وأمرها بالعودة إلى الشام. لكنها وقعت على الأرض تحبو وتثغو، ثم نهضت ونظرت إلى التلة التي تقع عليها خربة الريحان ، وصرخت: ياويلي ! لم يبق أحد في القرية). ص 42.

– لنلاحظ هنا قسوة المشهد، أن تتحول الجدة إلى الحبو ثم الثغاء، ومن ثم تنهض لتجد الخواء والفراغ والأطلال، سنجد أن الأديب هنا يقدم صورة اشد مأسوية حين تنهض الجدة وبين دمعة ودمعة، حفرت قبراً صغيراً لحفيدها. لكنها وفي لحظة انطلاقها نحو الشارع العام، هناك تموت الجدة،  تحت عجلات قاطرة ثقيلة. في قصة اليوم الأخير والأول – ص 99- قصة لا تختلف عن باقي شقيقاتها في المجموعة إلا أنها تتميز بذاك الخيط الخفي الذي يجعل ختانها مسك. فلاشات حداثوية تجعل قارئ هذه المجموعة يبتسم ولربما يحزن أكثر.  ثمة تكثيف وانزياح لغوي في قصص هذه المجموعة، ما يدل على اشتغال الأديب أيمن الغزالي، على اللغة كتكثيف وعلى شاعرية اللغة. كحالة حداثوية تتماهى مع القصة القصيرة الحديثة في العالم . في دفتي المجموعة انسجام بين رسومات الفنان فؤاد دحدوح وقصص أيمن الغزالي .

** أرض الشهوات .. قصص قصيرة – أيمن الغزالي 301 صفحة قطع متوسط 2019 دار نينوى / دمشق .

العدد 1102 - 03/4/2024