تراجع الهيمنة الاميركية في الشرق الاوسط
صفوان داؤد:
في موقف عدّه معظم المحللين مفاجئاً، أعلن الرئيس الأمريكي، الشهر الفائت، الانسحاب من سورية، مع كل ما يمكن أن ينتج من تداعيات عن هذا القرار المفاجئ، وفعلاً خلال بضعة أيام بدأ التنفيذ. منذ تلك اللحظة. قد يصبح الانسحاب الأمريكي من سورية نقطة أساسية في تاريخ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وعلامة فارقة في نهاية حقبة (النظام العالمي الجديد)، التي كانت قد بدأت مع الرئيس السابق جورج دبليو بوش الأب. وستتجنب الولايات المتحدة ومنذ لحظة انسحابها المفترض، ممارسة دورها كقوة مهيمنة، أو شرطي عالمي، على ما يقول الباحث سيث فرانتسمان في صحيفة (ذا أمريكان ناشيونال)، كما أنها أنهت فعلياً حقبة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما الذي أسّست إدارته العمل مع (قوات سورية الديمقراطية) كقوة مُعتبرَة في مواجهة (تنظيم الدولة) وفي إزعاج النظام الحاكم في دمشق. ورغم ادعاء واشنطن أنها بخروج قواتها لن تنهي الحرب على (داعش)، إلا أن عدم انخراط حلفائها من الكرد السوريين في القتال سوف يؤثر على فعالية الدور الأمريكي في الشرق السوري، وسينحصر فقط على الغارات الجوية للتحالف الدولي وعلى العمليات الخاصة في سورية، انطلاقاً من العراق أو تركيا.
الانسحاب الأمريكي من سورية سيكون له تأثيرات حاسمة على نفوذ الولايات المتحدة في العراق والخليج العربي. ففي العراق، وجود للقوات الأميركية بدعوة من بغداد. لكن الاحتجاجات العنيفة التي تعصف بالعراق منذ أيلول الفائت يعكس أزمة عميقة في هذه البلد لن تستطيع واشنطن معالجتها، ومن المحتمل أن يقود ذلك في النهاية الى خروج وانحسار اكبر للدور الأمريكي فيها. إضافة إلى ذلك سيكون للخروج الأمريكي من شرق سورية تأثيراً سيئاً على حكومة إقليم كردستان، المُتمتعة بالحكم الذاتي والتي تعتبر شريكاً رئيسياً لواشنطن في العراق. وينسحب الأمر كذلك على تأثير الولايات المتحدة في الخليج. لقد أدى الفشل الجزئي لمنظومات الدفاع الصاروخي الأمريكي الموجودة ضمن الأراضي السعودية، والتخلي المتكرر لواشنطن عن حلفائها إلى ميل زعماء ممالك الخليج نحو الصين وروسيا، ونعلم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زار الرياض مؤخراً، واستُقبل بحفاوةٍ كبيرة، وهذه الزيارة بدلالتها الرمزية إنما تشير إلى تحول في نظرة الخليج تجاه السيد الأمريكي. وحتى إسرائيل رفعت من وتيرة نقاشاتها وتنسيقها مع روسيا.
الوجود طويل الأمد في الشرق الاوسط أدى فعلاً إلى إجهاد الولايات المتحدة بسبب الحروب والأزمات التي لا تنتهي في تلك المنطقة، وباتت الإدارة الأمريكية تتحاشى أكثر فأكثر الانخراط بها. ومن المرجح أن تعتمد عدم التدخل المباشر أسلوباً ونهجاً طويل الأمد، سواء قاده الرئيس الحالي دونالد ترامب أو من سيخلفه، والذي سيؤدي بالنتيجة إلى تخفيض النفوذ الأمريكي في المنطقة وتحويل جهود البنتاغون إلى عمليات احتواء كبرى مع الصين وروسيا. ويظهر التحول في هذه الاستراتيجية ابتداء من الشرق الأوسط، عند إحدى المهام الأساسية للبنتاغون في احتواء روسيا. ومن ثم إيران. بالنسبة للتعامل مع روسيا، هناك محوران لتطبيق هذا الاحتواء: الأول شرقي هو في سهل شمال أوروبا؛ بولندا ودول البلطيق. والثاني جنوبي؛ تشكل أوكرانيا ورومانيا الحليفان للولايات المتحدة أساسه. ويمثل إدراج تركيا في المحور الجنوبي قيمة مضافة للاحتواء كما سيوفر، بالإضافة إلى ذلك، مركز ثقل مهم في وجه التوسع الإيراني، ومعيق لاغنى عنه امام الطريق الذي تقيمه إيران إلى البحر الأبيض المتوسط. ويعتقد الساسة الأتراك، أنه لا يمكن التنبؤ بمطامح روسيا وإيران على المدى الطويل، ويمكن لهما في اي لحظة أن يهددا مصالحها اذا ماقررا العمل معاً. لذلك يتوافق الاهتمام الأميركي بتركيا في مواجهة روسيا وإيران مع المصالح التركية طويلة الأجل في تحطيم اي مشروع جغرافي كردي. وعلى الطرف النقيض، يعكس بقاء بعض القوات الاميركية في سوريا نيّة واشنطن ضبط أنقرة، أو بالأحرى ضبط تصرفات اردوغان الطورانية غير المسؤولة، اذ سيترك بقاء بضعة مئات من الجنود الاميركيين في سوريا أكثر من أزمة عالقة، لا يمكن حلها من دون العودة والتنسيق مع البيت الابيض. وقد يصل حد الضبط الى اعادة توفير حماية لـ«قوات سورية الديمقراطية» في العمق الجغرافي للشرق السوري، وإبقائها كورقة ضد انقرة. هذا ناهيك من أن تتحول عملية «نبع السلام» الى مصيدة اميركية في مجلس الامن بدعم فرنسي اوروبي. لكن كل ذلك لايخفي حقيقة أن هنالك شرق اوسط جديد لن يكون للولايات المتحدة الهيمنة الكاملة عليه، وستحقق فيه الصين وروسيا توازناً مقبولاً وندياً معها.