قليلٌ من الوعي والمسؤولية يساهمان في تربيتنا لأطفالنا
إيناس ونوس:
كثُرت ملاحظتنا بل ومعايشتنا في السَّنوات الأخيرة لمشاهد العنف بأشكاله المختلفة والمتعدِّدة بين شرائح المجتمع ككل بلا استثناء، لكن الأشدّ سوءاً ما نراه بين الأطفال خاصةً لأنهم لا يزالون في مُقتبل العمر لا يمتلكون الخبرة الكافية. غير أن ما يُجبرنا على تبرير بعض ما نراه منهم من عنفٍ مردُّه بالضَّرورة ما عايشوه خلال سنوات الحرب التي عصفت بكل شيء أمامهم، بل إن أعينهم تفتَّحت على مشاهد القتل والدَّمار وسماع أصوات القذائف فغدت حديثهم المستمر، بل ونمطاً من أنماط ألعابهم حتى بعد أن هدأت مظاهر الحرب القتالية، وإلى يومنا هذا. فبات العنف هو سيّد الموقف عند كل خلافٍ من الطَّبيعي أن يحدث بين الأشخاص البالغين، فما بالنا بالأطفال الصِّغار؟! وعلى هذا فقد انتشرت ثقافةٌ مجتمعيةٌ عند غالبية الأهل، الهدف منها وصول الطِّفل إلى مرحلةٍ يتمكَّن فيها من الدِّفاع عن نفسه ضدّ أيّ تعنيفٍ يمكن أن يتعرَّض له، تتمثَّل بتلقين الأهل لأولادهم ما مفاده: (لا تستكينوا لمن يضربكم وقابلوا الضَّرب بالضَّرب، أو الفعل بمثله، بغضِّ النَّظر عمّن كان الآخر الذي أمامكم)!
ولا تقتصر آلية التَّفكير هذه على الضَّرب بحدّ ذاته، بل تشمل كل ما يمكن للطِّفل أن يتعرَّض له من أصناف العنف سواء كان عنفاً لفظياً أو جسدياً أو… إلخ، رغبةً من الأهل بألاّ يكون ابنهم ضعيفاً في محيطه، ليتفاخروا به وبأنه قادرٌ على أن يأخذ حقه بيده، اعتماداً لمبدأ شريعة حمورابي التي تطوَّرت مع الزَّمن (العين بالعين والسِّن بالسِّن، والبادي أظلم)! ما أدَّى إلى انتشار صور عديدة للعنف، وأخذ أصحابها بتطوير مقدراتهم وملكاتهم الجسدية والحسية لمجاراة الأقوى، ولم يتمكَّن إلاّ القلَّة القليلة من الآباء والأمهات والمربين من امتلاك فكرٍ آخر بديل قد لا يُعطي ثماره في الوقت نفسه وإنما على مرّ الأيام، بأن يتمّ تعليم الطِّفل ضبط نفسه وسلوكه، وعدم الانجرار وراء تلك المظاهر التي لن تؤدي إلاّ إلى المزيد من الخلافات والتي لن تنتهي إلاّ بما لا تُحمد عقباه.
انتشر على صفحات الفيس منذ فترة مقطع فيديو يوضِّح مدى قدرة الأهل على تحسين سلوك أبنائهم وتعليمهم آليات ضبط النَّفس عند الغضب، بأن طلب الأب من ابنه كلما غضب، سواء منه شخصياً أو من زميلٍ له أو من أي أمرٍ آخر، أن يذهب ويمسك بالمطرقة والمسمار ويدقُّه في قطعةٍ من الخشب هيَّأها الأب مُسبقاً لهذا الغرض، وفعلاً بدأ الطِّفل بتنفيذ ما طلبه والده، وأصبح كلما غضب أو شعر بالغبن يذهب ليدقّ مسماراً في ذاك المكان، وشيئاً فشيئاً وريثما ينتهي تكون موجة غضبه قد زالت وثورة أعصابه قد هدأت، وينتقل معه أبوه إلى المرحلة التالية وهي التَّفكير بهدوء بما جرى ومحاولة رؤيته من جوانب أخرى. وبعد مضي فترة من الزَّمن طلب الأب من ابنه أن يشرح له النتائج التي وصل إليها من خلال ممارسته هذا السُّلوك، أوضح الطِّفل أنه بات أقلُّ غضباً وعنفاً مع محيطه المختلف، وتبيّن له أنه حين كان يسكت ويضبط أعصابه حينما يُثيرها تصرُّفٌ من قبل الآخرين، استطاع أن يكسب المعارك واحدةً تلو الأخرى. وينتهي الفيديو بأن طلب الأب من ابنه إزالة كل تلك المسامير، وما أثار دهشة الطِّفل أن عملية الإزالة لم تأخذ الوقت ذاته الذي أخذته عملية وضعها، فتدخَّل الأب ليوضِّح لابنه أن آثارها على الخشب تشبه الآثار النَّفسية التي ستتشكَّل حتماً عند الآخر والتي لن تزول مهما حاول أو قدَّم من اعتذاراتٍ أو مبررات.
يمكن لنا أن نُعلّم أبناءنا كيف يكونوا ذوي شخصياتٍ قويةً، لكن حكماً ليس من خلال تعليمهم العنف وتبريره، بل إن تلقينهم سياسة اللاعنف هي التي ستثمر أكثر وتكسبهم شخصياتٍ أقوى لأنها تعتمد في أحد جوانبها على إعمال العقل لا تغييبه الذي سيحصل ما إن تثور ثورة الغضب، ومن جانبٍ آخر تعلمهم احترام الآخر مهما أساء انطلاقاً من احترامهم لأنفسهم وتربيتهم وقيمهم الأخلاقية والاجتماعية والفكرية التي تربّوا عليها ومن ثم الاعتراف بالخطأ، فليس الآخر هو المخطئ دوماً.
لا نحتاج إلّا إلى قليل من الوعي وبعض من الوقت، حينما نتعرَّض كآباءٍ وأمهاتٍ ومُربين لسماع أطفالنا وهم يشتكون لنا ما تعرَّضوا له من عنفٍ من الآخرين، فالوعي وإعطاء أنفسنا بعضاً من الوقت يجعلنا نسيطر على مشاعرنا كآباء ونُبعد تعاطفنا الفطري مع أطفالنا، ومن ثم يفسح لنا المجال للتَّفكير برويةٍ وهدوء لإيصال ما نريده إلى أطفالنا بعيداً عن العاطفة المباشرة اللاواعية وغير المسؤولة، فتربية أبنائنا مهمة ليست بالأمر اليسير، كما أنها ليست بالصُّعوبة التي نظنُّها إن أحسنَّا التَّعامل والتَّصرُّف بحكمةٍ وهدوء وحبٍّ لهذا الكائن الذي لا نريد له أن يتشوَّه أكثر في ظلِّ وجود عوامل أخرى كثيرة وخارجة عن سيطرتنا تعمل على تشويهه.