التّمسك بالهوية الوطنية ينحسر في مجتمع طبقي استغلالي
سامر منصور:
في مجتمع كمجتمعاتنا العربية التي يسودها الطابع الأبوي الوصائي، يصعب تكوين استقلالية ورؤية موضوعية للعالم لدى الجيل الصاعد الذي يجري الضغط عليه كي يواكب ويُساير مجتمعه في رؤاه السائدة واتجاهاته العامة. لكن دوماً يكون الجيل الصاعد، لأنه في بداية مراحل أدلجته، يكون أكثر الأجيال انفتاحاً على المقاربة والمقارنة بالشعوب الأخرى. واليوم وسط زخم التواصل الحرّ إلى حدٍّ ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هل نستطيع أن نقول إن (قتل الأب) أضحت مسألة لا مفرّ منها؟ فالجيل الصاعد ليس دُمىً مؤدلجة بالنسبة للأجيال المتقدّمة في السنّ، التي هي واقعة فيها، إن الجيل الصاعد من الشباب العربي نشأ وترعرع في مرحلة قُرعت فيها عشرات الجباه لتماثيل ما يُسمّى بالزعماء والقيادات العربية بالأحذية واجتُثَّت من جذورها الحديدية، وأُلقيت صورهم في الحاويات، وسُحِلَ الكثير من أهم رجال الدولة وقيادات المخابرات في الشوارع وقُتلوا شرّ قتلة. هذا الجيل الصاعد جيلٌ متمرّد شجاع لا يعرف الخوف بتلك النسبة المهينة التي عرفتها الأجيال الأكبر سنّاً، حتى جزازو الرقاب في مملكة الظلام داعش ومشتقاتها الذين تحدّوا أقوى جيوش العالم وأظهروا عدم الاكتراث لتصريحات أقوى قادته، كان الكثير منهم من فئة الشباب، ورغم أنهم على خطأ وقد ضلّوا السبيل إلاّ أن هذا لا ينفي قوّتهم في الدفاع عن قناعاتهم رغم كونها تُرّهات وأباطيل، ومن جهة أخرى واجه أولئك الدواعش شباب عربي عبر عدد من الجيوش ومليشيات الحشد الشعبي العربية، واتسامهم بما يكفي من الشجاعة لمواجهة وردع الغول الداعشي المرعب، كل هذا يدلنا على وجود جيل شجاع مُتمّرد على مباعث الخوف وقادر على التعبير عن قناعاته والدفاع عنها، جيل قادر على (قتل الأب) بمعنى كسر قشرة البيضة (ذلك التكلس الذي يحاصره) والخروج إلى العالم. وإذا كان الفقر من العوامل التي تُخضِع الأجيال الصاعدة لإرادة وأنماط عيش وذهنية الأجيال التي سبقتها إلى الحياة وامتلكت مفاصل القرار والثروات في هذه الحياة، فإن دولاً منكوبة عبر التآمر الخارجي ومنهوبة عبر تآمر حيتان المال وتجار الأزمة والفاسدين، كسورية على سبيل المثال، لم يعد على صعيد الأسرة، أيُّ جيلٍ فيها لديه سلطة على الأجيال الأصغر سنّاً عبر القوة المادية (المال) وأضحى الاستقلال المالي وعدمه سواء لدى جُلَّ الأُسر التي أضحت غير قادرة عل تقديم شيء لأبنائها، وبالتالي فقدت ركناً أساسياً في فرض الطاعة، ألا وهو الركن المادي.
إنّنا اليوم في مجتمعات عربية خالية من مفهوم (القدوة) الذي كان سائداً، الآباء يعملون ليلَ نهار لتأمين لقمة العيش، ومنشغلون عن لعب دور المرجعية الفكرية. أهل السلطة أصبحوا مشبوهين بالجملة بكونهم لصوصاً مُنحطين، رجل الدين أضحى مادة كوميدية في وسائل التواصل، الزعيم العربي في أيّ لحظة قد يغرق في بحر من الأحذية والشتائم، وقد يُصبح فّارّاً أو خلف القضبان، ويمكن أن يموت في غياهب السجون كالرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، أو في حفرة كما حدث مع الرئيس الليبي الأسبق معمر القذافي. الفيس بوك أسقط كل الرؤساء، بإتاحته للرأي العام فرصة البروز، وكما حبيس الكهف منذ أمد بعيد جداً، قد يضطرب من يخرج إلى العالم فجأة، وقد لا يتأقلم مع النور ويبحث عن الظلام، وقد يتعثّر، وقد يُكسر طرفٌ من أطرافه، لكنه عاجلاً أم آجلا سيتعلّم من أخطائه ويقارن ويقارب ويستقرئ حتى يصل إلى ما توصلت إليه الدول المتقدمة. اليوم نحن في مرحلة ما باتجاه إنشاء أوطان بكل معنى الكلمة، والسعي لجلو الطابع الكاريكاتوري لأوطاننا التي قامت قوى الاستبداد بإضفائه من حيث لا تشعر.
في مطلع العقد الثاني من هذه الألفية بدأ يظهر رأي عام حقيقي بعيداً عن قوالب المكاتب السياسية للأحزاب العربية الكبرى، وتتمُّ مناقشة العقد الاجتماعي والطرق الأفضل لمفهوم المواطنة بعيداً عن الطوباويات التي تفرضها قوى الاستبداد العربي، وعلى ذلك، بدأت اليوم تتبلور الهوية الوطنية بناء على وعي حقيقي أخذ شيئاً فشيئاً يحلُّ محلَّ الوعي الزائف والاتباع القطيعي والاجترار الببّغائي للمصطلحات والمُسمّيات والتصورات والمفاهيم.
اليوم إحدى مشاكلنا هي لهاث الإعلام العربي في سبيل تلميع أحزابه وقياداتها، وأنه أضحى محموماً مبتذلاً، وكل هذا على حساب التصدي للعولمة التي تعصف بشبابنا، فترى الكثير من الشباب العربي يشتمون ويلعنون بلدانهم عند كل مناسبة! متمنّين الحصول على (فيزا)، ويكثر ذكر اليابان وألمانيا والسويد وغيرها من الدول على لسان الشباب، وكأن إحداها جزيرة الكنز! وما لا يدركونه مع الأسف أن شعوب تلك الدول لم تصل الى ما وصلت إليه إلاّ عبر حفاظها على هويتها الحضارية واستثمارها للتراكم المعرفي، وأنها أحلّت حوار الأجيال محلّ الطابع الوصائي الإقصائي، وتخلّصت من العادات والتقاليد البالية والخرافات، ولم تسمح لقياداتها وللدول الأخرى ببثِّ النزعات الطائفية والعرقية. أي إن شبابنا العربي ينظر الى الثمرة الحضارية ولا يعرف الرحلة الخضراء التي انطلقت من التراب نحو السماء للشجرة الحضارية لتلك الشعوب. وقد رأينا تخلّصاً من سطوة العادات والتقاليد، لكنها جاءت لتشمل تسريحات الشعر الغريبة والألبسة وغيرها من المظاهر منذ مطلع هذه الألفية دون أن ينسحب على مسائل أخرى أعمق. وحين جاءت السانحة لتغيير حقيقي يشمل المجتمع بجلّ أركانه، وجدنا الرغبة العارمة لدى كثير من الشُبّان للهجرة عوضاً عن استثمار السانحات في هذه المرحلة من التاريخ العربي، فقد تلقّى التطرّف ضربات قاضية وجرت تعرية وحشيته وكشف ازدواجية معاييره، وحيث الدكتاتوريات العربية التي لم تسقط بسقوط رموزها، أضحت مدفوعة بخوفها وقلقها تخوض ولادات قيصرية نحو مجتمعات أكثر حرية وعلمانية.
وختاماً، لابدّ من التأكيد أن الهوية القومية تراجعت في مناحٍ وتقدّمت في أخرى، خاصّة أن الحراك الشعبي جاء في كل الشوارع العربية، ورغم أنه قد جرى حرفه وتوظيفه لصنع جحيم عربي، إلاّ أنّنا نعوّل على المراحل القادمة خاصّة بعد أن احترق (كرت التطرّف)، كما نعوّل على تمسّك الجماهير العربية بقيمة التحرّك والتعبير ضدَّ الظلم وأركانه كافة.
ولعلَّ بالإمكان القول إن الهوية الوطنية قد شهدت تراجعاً في جلّ الدول العربية ذات التنوع الإثني والطائفي والعرقي، بفعل سياسات وممارسات غربية وتدخل خارجي، استطاعت زرع ثقافة التربّص بالآخر وتشويهه بنسبة جيدة، خاصة في تلك الدول التي يسودها الفساد، فمن أهم مباعث عدم حبّ الفرد للوطن هو إدراج مفهوم الوطن في سياقات استغلاله لصالح طبقة متنفذة، فالالتزام بالمواطنة السوية الصالحة يرتبط بسيادة القانون والتوزيع العادل للثروات وتكافؤ الفرص، فيشعر الإنسان أنه شريك في الوطن أو كما يقال في علم الاجتماع حاجة الفرد للشعور أي بأنه (مُتضمّن وليس مُهمّش).
واليـوم وبالعموم يدافع العربي عن هويته الإنسانية كاسراً قيود العبودية والتسلّط الديني والســياسي، وينتفــض في وجه التعامل معه كــأداة وشيء. ويتزامن ذلك النضال مع غيرة وطنية وحسٍّ وطني متوّهج رغم كل الفتن والعراقيــل وردود الأفعال الشعبية تجاه التطرّف والتدخل الخارجي، وما إن تنتهي حالة العسـكرة العربية ويعمّ الاستقرار حـتى يُطــلق الشارع العــربي حملات نابذة لكل ما هو دخيل عليــه ومُستغلٌّ له شيئاً فشيئاً وصــولاً إلى استعادة هويته الإنسانية والحضارية والقــومية بشكل لائق يضمن له الالتحاق بمسيرة التقدم العالميــة.