الأَديب والموسُوعي عبد الكريم اليافي

غياث رمزي الجرف:

(1)

لا ريب أن الثقافة العربية فقدت برحيل الدكتور عبد الكريم اليافي (صباح السبت الحادي عشر من شهر تشرين الأول عام 2008) علّامة وأديباً مبدعاً وناقداً فذّاً. ولا ريب أن الوطن العربي قد ودّع بسفر (اليافي) الأبدي واحداً من أهم علمائه الموسوعيين. ولا عَجَبَ في ذلك، فمسيرة الراحل العلمية والفكرية والأدبية والنقدية بَوَّأته منزلة رفيعة في مختلف الحقول المعرفية.

بداية تلقى (اليافي) تعليمه في القرآن والحديث واللغة على أيدي أئمة مدينة حمص التي ولد فيها عام ،1919 وبعد أن نال الثانوية العامة (فرع الرياضيات) التحق بكلية الطب في الجامعة السورية (جامعة دمشق حالياً)، ثم انتقل موفداً في بعثة علمية لدراسة الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية إلى جامعة السوربون بفرنسا، ثم انتسب إلى عدد من كليات الجامعات الفرنسية في آن معاً، فنال الإجازة في الآداب، ثم حصل على الدكتوراه في الفلسفة، وإلى جانب ذلك نال الشهادات في علم النفس العام، وعلم الاجتماع والأخلاق، وعلم المنطق، وتاريخ العلوم، والفلسفة العامة وعلم الفن وعلم الجمال وفلسفته، واختص في علم السكان. وإلى ذلك جميعاً كان الراحل الكبير شاعراً مطبوعاً.

لقد عرف العلامة عبد الكريم اليافي موسوعة ثقافية ومعرفية مترامية الأطراف. أتقن، إلى جانب العربية، اللغات الفرنسية والإنكليزية والألمانية واللاتينية والفارسية والتركية.

وبناء على ما تقدم جميعاً كان العلامة عبد الكريم اليافي، على مدى عقود، خبيراً أول لدى الأمم المتحدة في مجال علم السكان، وكان عضواً أصيلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، وفي المجلس الأعلى للآثار، ورئيساً لأول مجلة للتراث العربي، فضلاً عن عضويته للعديد من الهيئات العربية والدولية العلمية.

 

(2)

للغة العربية مكانة خاصة بين اللغات جميعاً، وصلتها بالشعب العربي وبغيره من الشعوب صلة فريدة في التاريخ. ينبغي أن نعرف أنه لا توجد في القديم ولا في الحديث لغة تضاهيها في المزايا، وتحاكيها في الخصائص والفضائل.

ولا شك أن عظمة اللغة متصلة من بعض الوجوه بمكانة الشعب الذي يتكلم بها وبدرجة الحضارة التي وصل إليها، ومزايا العربية وفضائلها ومآثرها تتجلى واضحة ناصعة عند النظر في تعابيرها ومفرداتها، وإبان الحضارة العربية الإسلامية.

هذا ما ذهب إليه العلامة الدكتور (عبد الكريم اليافي) في كتابه (دراسات فنية في الأدب العربي) الذي يعد من أهم الكتب وأغناها في بابه. إن سحر العربية هو الذي أوحى بهذا الكتاب، على حد تعبيره، فقد تألفت عناصره من إعجابه باللغة العربية وآدابها، ومن تأمله صوراً فاتنة من بيانها الملون العظيم، ومن الأحلام والأخيلة التي ابتعثتها تلك الصورة في آفاق دراساته المختلفة المتعددة. وإلى ذلك كان (اليافي) يرى أن خدمة اللغة العربية خدمة للقومية العربية وخدمة في الوقت نفسه للحضارة الإنسانية.

وكل تهاون في شأنها معناه التفريط في حق أعلى روابط الوطن العربي، والتقاعس في جنب أغلى كنوز التراث الإنساني، لذلك كله لزم أن نحرص عليها حرصنا على كياننا، وأن نستمسك بها استمساكنا بحقيقتنا، وكل جهد يصرف في هذا الشأن لن يضيع عبثاً لا في الميدان القومي ولا في الميدان الإنساني.

وصفوة القول: إن العربية، من وجهة نظر اليافي، كانت لغة العقل والقلب واليد لشعوب كثيرة، لا للشعب العربي وحده، في إبان عصور طويلة كانت لغة الأرض ولغة السماء. وأياً كان الأمر فهي لغة الحب الكبرى فيها من ألوان تعابيره الروحية ما ليس في غيرها.

 

(3)

ترك (اليافي) هنا وهناك عشرات البحوث والدراسات والمقدمات المختلفة. وترك في المكتبات العربية خمسة وعشرين كتاباً في الميادين العلمية والاجتماعية والنفسية والأدبية وفي النقد الأدبي المعاصر وعلم الجمال، ومن أبرزها:

* الفيزياء الحديثة والفلسفة.

* تمهيد في علم الاجتماع.

* في علم السكان.

* دراسات اجتماعية ونفسية.

* دراسات فنية في الأدب العربي.

* الشموع والقناديل في الشعر العربي.

* تقدم العلم.

* فصول في المجتمع والنفس.

* المجتمع العربي ومقاييس السكان.

* العلم والنزعة الإنسانية.

* المعجم الديمغرافي متعدد اللغات.

* جدلية أبو تمام.

* معالم فكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

وهذا بعض (أنموذج) مما كتبه اليافي في معرض حديثه عن (الجدل في تاريخ الفلسفة):

لعل أقدم الفلاسفة اليونانيين القائلين بالجدل هو هيراقليط، ورأى هيراقليط أن كل شيء موجود ولكنه في الوقت نفسه غير موجود، لأنه لا يبقى على حاله بل يتبدل ويتغير. وقد أصبح الجدل عند السفسطائيين تفنّناً في المحادثة ومهارة في المناقشة وقدرة على تصريف الآراء، وحذقاً في تهديم أقوال الآخرين بالكشف عن تناقضاتهم.

وقد برع سقراط وهو آخر السفسطائيين وأعظمهم في المناقشة وفي إبراز التناقض في أقوال خصومه ومخاطبيه، محاولاً في ذلك أن ينتهي بهم إلى المعاني الكلية وكأنه يولد أفكارهم توليداً، فكان الجدل عنده عبارة عن توليد الأفكار.

وأتى أرسطو فانخفضت مكانة الجدل لديه، إذ اعتبره نوعاً من الاستدلال يعتمد على القضايا والمقدمات الاحتمالية التي لا تفضي إلى اليقين.

والجدل نوعان: جدل الفكر وهو الرياضيات التي تشف في اتساقها وترتيبها ومعقوليتها عن نظام المثل، وجدل القلب وهو الحب وولع النفس بالصور الجميلة وتجاوزها إلى المعاني الكلية الجميلة والبلوغ في النهاية إلى تأمل الجمال الخالص في ذاته.

وبعد، تحية تقدير وعرفان ووفاء في ذكرى رحيل الأديب والعلامة الموسوعي الدكتور عبد الكريم اليافي، الذي أودعنا أعماله ودراساته وإبداعاته، التي ما برحت تغْني فكرنا ووجداننا وذوقنا الأدبيّ والفنيّ.

العدد 1104 - 24/4/2024