من القلب إلى القلب | جنازة رجل فقير مقطوع من شجرة !
عماد نداف:
كان شرطي المرور يقطع السير في كل الاتجاهات ماعدا الاتجاه الذي تمضي فيه الجنازة، يطلق صفارته وكأنه يعلن الاستنفار العسكري في الشارع الذي هو فيه، وسريعاً يبدأ المارة في البحث عما يجري من حولهم، والفضول لدى الناس لا يحتاج أصلاً إلى صفارة شرطي .
وما أن تهل طلائع الجنازة، ويترامى صوت القرآن الكريم من مكبر صوت سيارة دفن الموتى حتى يعرف الجميع أن شرطي المرور يعطي الأفضلية لمرور الجنازة، وكأنها سيارة إسعاف تستعجل الوصول إلى العناية المشددة.
أكثر ما كان أدهشني في تلك اللحظات،التحية العسكرية، التي أدها الشرطي للجنازة وهي تمرّ أمامه، أيّ أنه لا يكتفي بإيقاف السّير احتراماً لها، بل يؤدي لها التحية أيضاً، فيقف المارة باحترام ويقرؤون الفاتحة باحترام، ويرسم بعضهم إشارات على صدره!
ذهبتُ إلى الشرطي ، وسألتُه :
ــ لماذا أديتَ التحية عندما مرت الجنازة؟، هل هي جنازة ضابط أو جنازة مسؤول ؟
نفى الشرطي بحركة من رأسه دون أن ينشغل عن إدارة السير في الشارع، وقال: (في حالة الموت كله سواء، فالغني لا يعود غنياً، والفقير لا يعود فقيراً، والمسؤول لا يعود مسؤولاً !
وردد وكأنه حفظَ الجواب جيداً:(ابن آدم لايُشبع فمه إلا التراب)!
لم أفهم عليه كل هذه الأفكار التي صبها عليَّ صباً، ورأيتُه وهو يمضي في حركته يشير بيده فيوقف هذه السيارة أو يسمح بمرور تلك، يلوّح بيده محتجاً أو يصفر عندما يحصل شيء ما يستحق الصفير !
كدتُ أمشي قبل أن أسمع عبارته الأخير: (يجب علينا أن نؤدي التحية إجلالا لهيبة الموت).
جعلتني هذه الإجابة أقف وقد سيطرت عليّ دهشة سببتها الفكرة، وبعدها وعلى مدار سنوتٍ طويلة اعتدتُ أن أتمثل موقفه كلما مرت أمامي جنازة، فأتوقف عن السير إذا كنت ماشياً، ويتوقف فمي عن المضغ إذا كان فيه طعام، إلى أن كبرتُ وراح المشهد يتغير !
هذه الأيام لم يعد الشرطي يفسح المجال لمرور الجنازة، ولا يؤدي التحية احتراماً للموت، أما الناس فيأكلون ويشربون ويضحكون عندما تمر، لا أحد يكترث لها، حتى لو لحق بها طابور من السيارات المُفيّمة.
آخر جنازة مرّت أمامي كانت مستعجلة، وعندما تغير لون إشارة المرور إلى الأحمر توقفتُ، وتعالى صوتُ القرآن الكريم منها، لم ينتبه الشرطي إليها، ولا أدى التحية لها، أثارني الفضول واقتربتُ من نافذتها وسألت سائقها :
ــ لماذا لا يوجد سيارات تُشيّع الميت، وتمشي خلف الجنازة؟ فرد باختزال :
ــ هذه جنازة رجل فقير مقطوع من شجرة تدفنه البلدية مجاناً!
سألته من جديد: أين ؟
مشت السيارة وصوت القرآن الكريم يترامى منها، ولم أعرف منه على مكان الدفن!.