طفولة أميّة بالمطلق
غزل حسين المصطفى:
كنتُ أمشي على عجلٍ دون أن أُعطي انتباهي للمحيط، ورغم ذلك شدّتني صورته واقفاً على سور المخبز الآلي للمنطقة، وكما يُقال بالعامية (طوله شبرين ونص). نعم، كان صغير السن ضعيف الجسد، كبحتني صرخاته: (خالة … خالة، أمانة امسكي لي الخبزات!). لم أتردد، وهرعت إليه مسرعة، تلقّفتُ تلك الأكياس وقد كانت ثقيلة حتى عليَّ، فكيف لعموده الفقري وعضلات ساعديه التي لم تنمُ بعد أن تتحمّل هذا الوزن؟!
بلمح البصر قفز من ذلك الّسور ليأخذ مني (بضاعته)، مشاعر قلبي الأنثوي لم تستطع إلّا السؤال:
_أنت صغيرٌ على هذا العمل، الخطر في كل مكان، مكانك على المقاعد المدرسيّة!
لا يمكن وصف اللّمعة التي برقت في عينيه، كان رجلاً صغير، وأجابني بكلِّ ثقة: (لقمة العيش صعبة!). وهنا كانت صدمتي، فأيُّ زمانٍ هذا الذي جعل طفلاً مثله يذوق مرارة لقمة العيش! أيُّ مرار ذلك الذي يتحدّث عنه!؟
استأنفتُ مُجدداً لأسأل عن مجموعة تفاصيل تتعلّق بعمل والده، مكان الإقامة، وظروف العائلة، والختام هل جدّد عهده الدراسي والمدارس قد فتحت أبوابها حديثاً!؟
فقال: (ما في داعي ضيّع وقت وأخسر مربح على الفاضي_ هيك قال أبوي_ الشغل مكسب والمدرسة علاك).
_ويلاه، ما أكبر هذا الكلام! ما هذه الجريمة بحق السماء!؟
اغرورقت عيناي بالدموع الحارقة، لكنّي أمسكتُ نفسي عن نواح طويل وطلبت منه أن نتفق على (موعد) على طاقة الفرن، لنتحدّث عن المدرسة علّني أستنجد بجهة ما تُعينني على تيسير أمره، لكن محاولتي باءت بالفشل، وعلّقني بمصادفة ما دون أن يُحدّد لي شيئاً وفرّ هارباً.
كلُّ هذا الحديث وكان أقرانه قد تجمّعوا حولنا ظنّاً منهم أنني سأُلحق به أذىً، فيكونوا سنده ضدّي.
وبعد أن هرب ذلك الطّفل سألتني ملاك صغيرة أيضاً: (آنسة أنتِ بتعطي مساعدات؟!). كم تمنّيت حينذاك لو أنني أستطيع أن أجيبها بنعم، ولكن ما باليد حيلة!!
مضيتُ والمشهد يحرق كلَّ خليّة مني، وشريط الذّاكرة يعود بي إلى مشهدٍ لم يكن ببعيد جمعني بطفلة أخرى، حين كنتُ في رابية ما أنظرُ إلى الخرافِ الصّغيرةِ من حَولِها وألتقط الصورَ، جاءتني بخجلٍ وقالت: (صوّريني أنا كمان!).
خجلتُ من طُفولتِها، خجلتُ من أنوثتها المُقبلة على الطريق يوماً.. قلتُ لها: ما أجملكِ من فتاة! لم يعنِها الموضوع.
أتراهُ بات الغزل أو طيب الكلام بضاعة فاسدة التداول أمامهم، على حين أنّ الحياة لم تُذقهم إلاّ المُرّ!!؟
لقد كان شغلنا الشاغل، على مدى عقود، القضاء على أُميّة الحرف أو أمّية القراءة والكتابة، والمناهج الدراسية، وبعض التفاصيل المُتعلّقة بالبيئة الصّحية لنمو الجيل، لكن الموضوع اليوم قد بات مرعباً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.
كونٌ يتسابق في حربه الإلكترونية، فضاء العالم الأزرق (الفيسبوك) ليس هو الوحيد، طرقٌ عدّة وسبلٌ مختلفة في هذا السباق الرقمي ونحن مازلنا على عتبات علم بسيط مبتور، وأفق إنساني قد حُرّم.
ماذا يعني أن يكون لدينا جيل بأكمله وقد تشوّهت معالمه بالكامل؟! نعم، تشوهت مادياً (بعض الإصابات) ومعنوياً؟
ماذا يعني أن يكون هذا الجيل صانع الغد المُقبل وسيُربّي من بعده أجيالاً مُتعاقبة؟
فالعلم_ يرون أنه_ لا نفع منه، الحقوق كلام على ورق، الواجبات لا وجود لها إلاّ ما تقتضيه المصلحة العامة، دخول سجن الأحداث سيكون مصنعاً للرجولة وكسر تقاليد العمر الطفولي فيغدو(رجّال)، الصوت العالي والسّكّينة هما الحكم.. أيُّ قانون وأيّة سلطة؟
مهمّة المحامي تخفيف الحكم وإقناع القاضي، وإن لم يستطع، فمنهاج الرشوة قد تعلمه هذا الجيل وأتقن تطبيقه بشكل مذهل!!
كلُّ المُنى أن تشتاق إشارة المرور لطفل ينام تحت ظلّها، ويتحوّل إلى طالب يلوّح لها كل صباح بزيّه المدرسي المنضبط، ويُجدّد عهد الالتزام بالقواعد العامة والقانون معها.
ما أصغر ما قلته بوصفه جملة، ومن منطلق الحقوق والشكل الطبيعي للحياة، ولكن ما أبشع أن تتحوّل لأمنية قد تكون صعبة المنال، وكلُّ كفٍّ يسعى في رزقه ولا يسعى ليشبُكَ آخر ويُغيّر الخارطة.
لا نريد للأكفِّ أن تُصفّق، فقد شبعنا طنيناً ورنيناً وأهازيج، نريد من هذه الأيادي أن تخطّ حروف (أبجد هوز) لطفولةٍ أميّةٍ بالمُطلق.