تغنّينا بالاقتصاد الرقمي صوت نشاز
د. أحمد ديركي:
لم تعد الاحتكارات الاقتصادية مقتصرة على تمركز الثروة، بالمفهوم التقليدي للثروة، في أيدي حفنة قليلة من البشر، متنافسة ليس فقط على استغلال سكان الكرة الأرضية، بل دخلت في تنافس فيما بينها لرفع مستويات تمركز الثروة. والثروة هنا، حالياً، أصبح لها معانٍ متعددة، ومنها الاقتصاد الرقمي (digital economy)، ويمثل حالياً أحد أوجه الصراع على مستوى العالم في سبيل احتكاره.
قد يكون مصطلح (الاقتصاد الرقمي) حديث الاستخدام في عالم الاقتصاد، لذا من الأفضل تعريفه بشكل مختصر. يشير الاقتصاد الرقمي إلى مجموعة واسعة من الأنشطة الاقتصادية التي تستخدم المعلومات والمعرفة الرقمية كعوامل رئيسية للإنتاج. يتم استخدام الإنترنت والحوسبة والبيانات الضخمة… وغيرها من التقنيات الرقمية الجديدة لجمع المعلومات الرقمية وتخزينها وتحليلها ومشاركتها وتحويل التفاعلات الاجتماعية.
لن ندخل هنا إلى التساؤل حول انعكاس الاقتصاد على المجتمع وعلاقاته، وما يغير هذا الاقتصاد في البنى المجتمعية التي يعمل بها. لكن سوف نحاول تلمس موقعنا، كبلاد مستهلكة لهذا التطور الاقتصادي لا منتجة له، وإن كنا في كثير من الأحيان نتغنى بأننا (نواكب العصر) بإدخالنا (الاقتصاد الرقمي) لتحديث اقتصادنا المأزوم، لأسباب لا علاقة لها بـ(الاقتصاد الرقمي)، فيزيد الأزمة أزمة، ويصبح تغنّينا به صوتاً نشازاً.
تتركز ثروة (الاقتصاد الرقمي) في الولايات المتحدة والصين وبقية دول العالم متخلفة جداً عن اللحاق بهما. وما أكثر الأمثلة على هذه المسألة أبسطها (الهاتف الذكي)، أين يُصنع؟ من يقوم بصياغة برامجه؟ من يقوم ببرمجة التطبيقات التي نتفاخر بأننا نملكها على هاتفنا الذكي؟ وكذلك الأمر بالنسبة للكومبيوتر، أين يُصنع؟ من يكتب برامجه؟ أبسطها برامج Microsof, windos, excel… وغيرها وغيرها من البرامج؟ فكل ما نجيده هو (سرقة) نسخ غير أصلية لهذه البرامج، وهي أيضاً ليست من صنعنا، بسبب كلفة النسخ الأصلية مقارنة بدخلنا، ونضعها على كومبيوتراتنا لنستطيع إنجاز عمل ما. الاجهزة الطبية (الحديثة) كل ما نفعله نستوردها ونستهلكها. آلات التصوير، التلفزيونات الحديثة… وغيرها كثير من الأدوات والآلات والأجهزة (الرقمية).
يمكن تبيان مدى استحواذ الولايات المتحدة والصين على ثروات (الاقتصاد الرقمي) من خلال براءات الاختراع المتعلقة ومقارنتها مع بقية دول العالم. تستحوذ الولايات المتحدة والصين على 75% من براءات الاختراع المتعلقة بسلسلة السجلات المغلقة، و50% من سلسلة النفقات العالمية المتعلقة بإنترنيت الأشياء، وأكثر من 75% مسوق الحوسبة السحابية، وتمثل كل من الصين والولايات المتحدة نسبة تصل إلى 90% من قيمة الرسملة السوقية لأكبر 70 شركة من شركات المنصة الرقمية العالمية.
ونحن نتغنى بإدخال (الاقتصاد الرقمي) إلى بلادنا، بينما (أكثر من نصف سكان العالم يفتقرون الوصل إلى الإنترنيت، أو تتوفر لديهم فرص قليلة جداً للربط بها) وفقاً لتقارير الأمم المتحدة. ونظنّ إن شاهدنا سكان العواصم، في معظم الأحيان يحملون هواتف ذكية موصولة بالإنترنيت، نظن أن كل سكان البلد لديهم هذه الخدمة، ونبدأ بتضخيم الأرقام وإطلاق الأحكام من دون القيام بأي إحصاء فعلي لهذا الأمر.
فما الذي نجنيه من إدخال (الاقتصاد الرقمي) إلى بلادنا؟ قد يكون أخطر ما نجنيه هو المساهمة بشكل كبير، كوننا مستهلكين لا منتجين له، في مركزة الثروة في أيدي حفة من أصحاب الشركات الكبرى، مثل (غوغل)، و(فايس بوك)، و(ميكروسوفت)… والأخطر من هذا نصبح، كوننا بلاد مستهلكه (للاقتصاد الرقمي) لا منتجة له، مجرد دول مصدرة للبيانات الخام ومطالَبين في الوقت نفسه بدفع قيمة ما نستهلكه من ذكاء رقمي يُنتَج في بلدان أخرى بالاستناد إلى بياناتها هي!
بعبارة أخرى نصبح مصدِّرين بضاعة (رقمية) خاماً، ومطالَبين بدفع ثمن استيراداها من البلدان التي صدرنا إليها لتُصنّع بها هذه المواد الخام وفقاً لأهوائها!
أمر يضعنا أمام إشكالية أخرى على أمل أن تبحث من قبل المهتمين بهذا الأمر. الإشكالية هي أن الجامعات الخاصة المهتمة بتدريس التكنولوجيا بكل تفرعاتها، وتحديداً ما له علاقة بتكنولوجيا الكومبيوتر، تتكاثر في بلادنا مثل الفطر، والطلاب يتدفقون إليها أفواجاً وأفواجاً، وخريجوها أفواج وأفواج أيضاً، ماذا تدرس؟ لمَ كل هذا التركيز على هذه الفروع من دون إنتاجية؟! هل الهدف من كل هذا زيادة في استهلاك (الاقتصاد الرقمي) لا إنتاجه؟ استهلاك لمصلحة من؟ وعلى حساب من؟