فضاءات ضيقة | أبو العلاء المعري.. العقلانية والتنوع الثقافي
د. عاطف البطرس:
اختيار أبي العلاء المعري شخصية تاريخيّة في معرض الكتاب لهذا العام، اختيار موفق، لا لأنه شاعر كبير من أعلام الشعر العربي، ولا لأنه فيلسوف الشّعراء فحسب، بل لأنه يمثل ذروة من ذرا التّطور الثّقافي والمعرفي التي عرفتها عصور الثّقافة العربية.
من الصعب أن نحيط بالانفتاح الدّلالي للاختيار، فقد جمع المعري معارف متنوعة أغنت شخصيته وجعلت منها مثالاً للتساوق والتكامل المعرفي، فهو ابن الثّقافة العربيّة الإسلاميّة التي استوعبت الثّقافات المعاصرة لها والسّابقة عليها من هنديّة وفارسيّة ويونانية… أعادت تركيبها في عملية كيميائية حضارية إنسانية، مضيفة إليها ما أبدعته العقلية العربيّة الإسلاميّة في أوج ازدهارها القائم على الانفتاح والتّنوع الثقافي.
المعري ابن أبهى عصور الثّقافة العربيّة الإسلامية حتّى ولو كان الأخير زمانه فعلاً لا قولاً جاء بما لم يأت به الأوائل.
اعتمد فيلسوف المعرّة المنطق اليونانيّ أساساً في التّفكير، وهو من أهم العقلانيين العرب، الذين اعتمدوا الشّك طريقاً إلى اليقين، رافضاً اليقينات المطلقة، معتمداً على الواقع ومعطياته التّاريخيّة في بناء أحكامه وآرائه الفكريّة والفلسفيّة، وبذلك سبق ديكارت في اعتماد الشّك المنهجيّ طريقاً إلى اليقين.
صحيح أن المعري لم يقدم فلسفة متكاملة في الّشك المنهجي، لكنّه اجتهد في وقت مبكر، وما كان له أن ينجز ما قدمه ديكارت بعد مئات السّنوات من التّقدم العلمي والمعرفي.
المعري شاعر إنسانيّ غيريّ، لا يريد الخير ولا السلام لنفسه، وإنما للإنسانية جمعاً، فهو يتمنى أن يعم الخير على الجميع، دون تمييز بين لون وعرق وفئة:
فلا هطلت عليّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
لذلك ليس مستغرباً أن تقوم قوى الظلام والتخلف بقطع رأس تمثال المعري، لأنها تدرك أهميته وقيمته ليس التاّريخية فحسب، بل الرّاهنية أيضاً.
ما أحوجنا اليوم إلى عقلانية المعري وفلسفته الإنسانية، ومنطلقاته النّظرية وتعدديته الثّقافية وموهبته الشّعرية التي استطاع بواسطتها أن يصوغ الفلسفة شعراً، وأن يقدم الأفكار في قوالب فنية تثير فينا قدراتنا العقلية وأحاسيسنا الجمالية.
لم يتعامل المعري مع الفلسفة والفكر بوصفهما ثوابت لا تقبل الإزاحة، بل تعامل معهما في جدلية العلاقة مع الواقع، فكل شيء عنده قابل للتغير والتغيير، وهو من رواد النزعة المادية في الفلسفة، والمنحى التاريخي في تناول الأحداث والوقائع، يدرك بحسه السليم وعقله النّير أن الثوابت المطلقة تعيق التطور والتقدم، وأن النصوص الجامدة الأبدية تعطل حرية الفكر وتصادر صناعة المستقبل لحساب ماض ولى ولن يعود.
إيمان المعري بالإنسان ومقدراته العقلية، جعل منه رائداً من رواد النزعة الإنسانية التي كانت أساس النهضة الأوربية التي جعلت من الإنسان مركز الكون، فهو الغاية والوسيلة، ومهمة العقل والفلسفة والفكر أن يعيدوا للإنسان ما استلب منه بالعمل على تكوين شخصية إنسانية منسجمة تستطيع أن تجيب عن أسئلة الحياة، وتدفع نحو التطور والتقدم والازدهار للبشرية بكل غناها وتنوعها واختلافها، فمشتركات البشر على تنوعها تشكل جوهر الشخصية الإنسانية، التي لا يمكن بناؤها إلا من خلال العقل والعلم وازدهار المعارف التي جسدها المعري بكل ما أنتجه شعراً ونثراً وفكراً وفلسفة وأدباً وسلوكاً، فكان مثال المثقف الذي لا ينفصل عنده القول عن الفعل.