هل ستنجح موسكو بفك ارتباط الدولة التركية مع حلف الناتو؟
محمد علي شعبان:
هل ستنجح موسكو بفك ارتباط الدولة التركية مع حلف الناتو، فتؤسس لمرحلة جديدة، تتشكل فيها تحالفات مشرقية، تؤدي إلى تغيير في ميزان القوى الدولي؟
لقد تميزت سياسة الدولة التركية طيلة عقدين من الزمن، بقيادة حزب العدالة والتنمية، ببراغماتية عالية مع جميع الدول. ورغم التذبذب في العديد من المواقف، تجاه معظم القضايا، إلا أن الصمت الذي تمارسه معظم الدول تجاه هذا التذبذب، لم يكن مبرراً، لولا أن تلك الدول راضية عن هذا التذبذب وتحمل نوايا خاصة لتوظيفه والاستفادة منه، وقد تحمل الأيام والسنوات القادمة صراعات قد تتفجر، بين تركيا وبعض حلفائها ثمرة القبول بهذا التذبذب.
من يراقب التطورات والأحداث خلال تسع سنوات من الأزمة السورية، وعلاقة الدولة التركية مع روسيا الاتحادية، منذ إسقاط الطائرة الروسية، يكتشف مستوى المناورة في السياسة التركية من جهة، ومستوى قبول روسيا وصمتها، وتعاطيها مع هذا المناورة من جهة ثانية.
فماذا تريد روسيا من تركيا؟ وماذا ستقدم روسيا لتركيا؟
منذ خمسينيات القرن الماضي، حين تشكل حلف الناتو، كانت الدولة التركية تشكل تهديداً صريحاً لدول الاتحاد السوفيتي، باعتبارها خاصرة حدودية متحالفة مع حلف الناتو، ولأسباب عديدة أهمها:
الأول_ الموقع الجو سياسي التي تتمتع به الدولة التركية ووجودها كبوابة بين آسيا وأوربا. وتمتلك مساحة كبيرة بقارة آسيا.
الثاني_ وجود قواعد أمريكية على الأراضي التركية وأهمها قاعدة أنجرليك، التي تشكل تهديداً حقيقياً لمعظم أراضي الاتحاد السوفيتي السابق.
الثالث_ العمق التاريخي للإمبراطورية العثمانية ذو الطابع الديني، وأثره في محيط تركيا الإسلامي، وثقافة الخلافة الإسلامية التي دامت عدة قرون من الزمن، والعلاقة التاريخية التي تربط تركيا مع بعض الجمهوريات الإسلامية التركمانية المجاورة لتركيا.
الرابع_ قوة الجيش التركي في حلف الناتو والدعم والإغراءات المقدمة لتركيا من قبل دول الحلف وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية.
جميع هذه الأسباب وأسباب أخرى، شكلت وما تزال تشكل خاصرة ضعيفة لروسيا، مما اقتضى التفكير جدياً من قبل السياسيين الروس، بترميم هذه الفجوة، وتحويلها من نقطة ضعف لروسيا، إلى نقطة قوة، ونقل تركيا من حالة العداء، إلى تحالف تكون فيه صديقة لروسيا، رغم عدم ثقتها بالقيادة التركية في الماضي والحاضر.
فهل ستنجح روسيا في تعميق التناقض والخلافات بين تركيا وحلف الناتو؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام والسنوات القادمة التي قد تحمل مفاجأة عديدة بهذا الخصوص.
من يتابع طبيعة الصراع وأشكاله، منذ مطلع القرن الحالي، يكتشف أن القارة الآسيوية تعيد ترتيب أوراقها وتشكيل قواها من جديد، بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية انتصارها على خصومها في العالم منذ نهاية القرن الماضي، والحروب الاستباقية التي قامت بها، في أفغانستان، والعراق، والدور الذي تلعبه بتدخلها في شؤون الدول التي شهدت احتجاجات ما سمي (الربيع العربي) وفي شؤون دول أخرى في العالم، كالحصار والعقوبات.
لقد اكتشفت تركيا هشاشة العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية، وخاصة مع حزب العدالة والتنمية، والدور الأمريكي في التدبير والدعم للانقلاب الفاشل على سلطة أردوغان، رغم الوعود التي كانت بين الإدارة الأمريكية والإخوان المسلمين في تركيا. وأصبح ضروريا أن تعيد تركيا بقيادة أردوغان التقييم ومراجعة مواقفها مع الإدارة الأمريكية، وخاصة بعد تبني الإدارة الأمريكية واحتضانها السوريين الأكراد، ودعمهم سياسياً وعسكرياً.
وفي الوقت نفسه وقفت روسيا الاتحادية مع الرئيس أردوغان، أثناء الانقلاب، وقدمت الدعم له في العديد من الملفات، وصولاً إلى إعطائه منظومة صواريخ (إس400) رغم الإساءة التي وجّهها أردوغان لروسيا بإسقاط الطائرة الروسية، والفهم الدقيق لتقلبات أردوغان.
وبعد معرفة القيادة التركية، حقيقة الدور الأمريكي الرامي إلى جعل الأكراد قوة حقيقية في المنطقة، للاعتماد عليها كورقة لصالح أمريكا وشريكها الكيان الصهيوني، في جعل المنطقة في حالة توتر دائم، وخشية النظام التركي، من تنامي هذا الدور وصولاً إلى مطالبة الأكراد بالاستقلال، وإقامة حكم ذاتي، والقناعة بأن الإدارة الأمريكية عازمة على تنفيذ مشروعها، بإقامة شرق أوسط جديد، ستكون تركيا إحدى الدول التي ستقسم عاجلاً أو آجلاً، بحكم التنوع، القومي والطائفي والمذهبي، الموجود داخل التركيبة الاجتماعية التركية.
هذه المخاوف، والخذلان من الإدارة الأمريكية، دفعت بالرئيس التركي، إلى التفكير جدياً، وفهم سوء نوايا أمريكا، ليس لتقسيم المنطقة وحسب، إنما لخلق حالة من التوتر والصراع الدائم الذي يستنزف المنطقة، ولن تكون تركيا خارج الاستنزاف.
وما دامت الخيارات معدومة ولا يوجد إلا خيار واحد وحيد، هو انتقال تركيا شرقاً والانضمام تدريجياً إلى التحالف المناهض، للإدارة الأمريكية دفاعاً عن الذات، والذي تشكل من مجموعة الدول الآسيوية، ووقف بكل جدية لحماية القانون الدولي وعدم استباحة الدول كما تفعل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها.
إن انتقال تركيا من تحالفها مع الناتو ولو بشكل تدريجي، يوجب عليها علاقات جديدة ومتميزة مع دول الجوار، وخاصة (سوريا، العراق، إيران) بسبب وجود القضية الكردية المشتركة مع الدول الأربع، التي لا يمكن حلها حلاً عادلاً في منطقة بعينها دون أخرى.
إن قضية الأكراد المشتركة لا يمكن حلها إلا بطريقتين:
الأولى هي استقلال الأكراد وانفصالهم. وهذا لن توافق عليه إطلاقاً، أيّ دولة من هذه الدول الأربع، ذلك أن جميع هذه الدول تعرف خطورة القضية الكردية والأطراف التي تعمل في الخفاء والعلن لاستثمارها وتوظيفها، في مواجهة طموحات دول الإقليم.
والثانية وهي الأكثر حكمة وتعقلاً، والتي تجعل المواطنين الأكراد متساوين بالحقوق والواجبات حيث وجدوا، بعيداً عن أي نزوع قومي أو ديني. وهذا هو التحدي الذي يؤسس لتوجه جديد في الإقليم. توجه أساسه علاقة حسن جوار بين الدول الأربع. وما دام لا يوجد صراعات أو خلافات بين هذه الدول، وجميعها تتعرض لخطر واحد قادم من الغرب الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فهذا يقتضي إقامة تحالف ما، بين دول الإقليم الأربع التي تربطها علاقات تاريخية عمرها آلاف السنين، ومصير مشترك، وأخطار مشتركة، لتتحول المنطقة من ساحة فعل لصالح أعداء الإقليم، إلى ساحة جديدة، تُشكل نموذجاً من التعايش والتعاون والازدهار، وتساهم في حل النزاعات بين دول الجوار، وتخلق شرق أوسط جديداً فعلاً، لكن ليس كما تُريده الولايات المتحدة الأمريكية، شرق أوسط كما يُريده العقلاء ومحبو الإنسانية في الإقليم، يتحول من ساحة فعل لقوى العدوان، إلى فاعل حقيقي، بتحجيم وإبطال وحشية هذه القوى التي استباحت العالم لقرون وعززت القتل والحروب.
إنه المنطق السياسي في اللحظة الراهنة، وما تتطلبه مصالح دول المنطقة وشعوبها، لكن من قال بأن المنطق هو السائد في السياسات التركية اليوم؟ ولعل مخطط تركيا الذي أقنعت به الإدارة الأمريكية حول المناطق الآمنة، وتقسيم سورية، يدلل على خيانة أردوغان لمصالح الشعب التركي العليا.