(جنائن السّرد- جدلية العلاقة بين القارئ والنص).. محمد جُبير.. منهج نقدي حداثوي

أحمد عساف:

هذا الكتاب النّقدي، للكاتب والناقد العراقيّ محمد جُبير، من الكتب النقديّة المهمة جداً، وهو إضافة جديدة إلى المكتبة النقدية العربية، التي تفتقر وتفتقد في الوقت ذاته مثل هذه الكتب. منذ عدة سنوات، يشتغل الكاتب والناقد محمد جُبير على مشروعه النقدي الذي بات هاجسه ومتعته في الوقت ذاته. وهو المشغول بهندسة مشروعه النقدي الخاص به، وهذا بحد ذاته جهدٌ مضنٍ يتطلّب جلَداً وصبراً ونبشاً وبحثاً وكثيراً من التعب، للوصول في النهاية إلى نتيجة تتوَّج بثمرة ناضجة على درب الإبداع النقدي، الحلقة المفرغة بين النص والنقد، من حيث تطور النص، وترهل النقد واتكاؤه على الآخر – الغرب – بما يمثل من تيارات نقدية متقدمة ومتطورة.

يمتلك محمد جبير أدواته النقدية. وخصوصيته وابتكاره لقيم جمالية معرفية نقدية تضعه في مرتبة متقدمة جداً على سلم النقد العربي. يمتلك جُبير حساسية عالية المستوى من ملامسته للنص الإبداعي والولوج فيه لدرجة الذوبان فيه والتماهي معه بشكل لافت. فهو يعيد تفكيك بنية النص ومن ثم يحاول إعادته إلى الحياة بشكل آخر تشكيلي. ولا أبالغ إذا قلت إنه يعيد صياغته بشكل جديد ويقربه كثيراً من القارئ. يمتلك جبير أدوات نقدية خاصة به، حققت له تلك البصمة الواضحة في المشهد النقدي على امتداد رقعة العالم العربي، وهو يعمل على تيار الحداثة ويذهب كثيراً إلى ما بعد الحداثة. قد نرى شهادات هنا وهناك لـ(جاك دريدا، وميشيل فوكو، وبول فاليري وغيرهم)، وبعض الأسماء العربية، كل هذه الإحالات أو الاقتباسات ما هي إلا إضافات إلى مشروع محمد جبير النقدي صاحب (متعة القراءة،  دهشة السّرد، وقراءة النص السّردي، والرواية الاستقصائية، … الخ).

كتاب (جنائن السّرد) عنوان لافت ويصلح أن يكون عنواناً لرواية ما، وحتى لمجموعة قصصية. لذلك هو لا يقدم مفاتيحه للقارئ بسهولة، كما أنه ربما يساهم بالإيحاء لقارئ ذكي ولمّاح ليدخل ضمن سراديب فضفاضة العنوان واشتغالاته على ذاته، بعيداً عن أن يكون عتبة دالة للولوج إلى الكتاب.

إلا أننا بعد أن نقرأ العنوان الفرعي أسفل العنوان الرئيسي (جدلية العلاقة بين القارئ والنص) سنكتشف أن المؤلف أراد أن يعقد حالة من التراضي مع قارئه، ومع هذا كله لن يكون الولوج إلى دفتي الكتاب سهلاً.

 كتاب (جنائن السرد_ جدلية العلاقة بين القارئ والنص) إطار تطبيقي إجرائي في سرديات محمد حيّاوي، هنا كمين ذكي ومدروس بعناية فائقة من مؤلف الكتاب.

بعد أكثر من أربعة عقود انقضت في تجربة متعة القراءة للنص الإبداعي (رواية، قصة، شعر، مسرح وغيرها)، صار من الصعب الاقتناع بكل ما ينتج على هذا الصعيد، نتيجة لطغيان غثّه على سمينه، وأنا أتحدث هنا عن جنس إبداعي محدد هو الرواية التي أخذت الماكينة الإنتاجية بانتهاك حرمتها نتيجة ضخ الكمّ الهائل من المطبوعات المنتمية إلى هذا الجنس ظلماً وبهتاناً، وصعّبت من عمليات النقد، إذ أصبحت السيادة في الانتشار لصالح الغث من تلك الأعمال ولأصحاب المال الذين يدفعون للناشر مقابل طبع أعمالهم ومحاولة تسويقها قسرّاً. وبعيداً عن الغثّ من النصّوص، تعتاش الذاكرة على مراجعة نصوص روائية خالدة تتوهج إبداعاً، وهذه النصوص لا يمكن إغفالها حتى لو طُمرت بآلاف النصوص الغثة والهشة والهابطة، فإنها تظل برّاقة وباذخة في عطائها، وهي تتقلّب بين يدَي القارئ وتنتقل من يد إلى أخرى لتشيع المتعة في النفس العطشى للارتواء بماء الإبداع العذب، تلك النصوص التي تطرح الأسئلة بعمق وتزيد عذوبة السرد الروائي وتحفز القارئ على السير في تضاريسها بحثاً عن عشبة الجواب التي تمنحه ديمومة القراءة، وأقصد هنا القراءة الفاعلة التي ينتجها القارئ المثالي. بهده الجمل يبدأ الناقد محمد جبير مقدمة كتابه جنائن السرد. ص 9.

يقف هذا المسعى النقدي عند ثلاث تجارب روائية للكاتب محمد حيّاوي هي: (خان الشابندر، وبيت السودان، وسيرة الفراشة) وهي من التجارب التي أثارت اهتماماً عربياً واسعاً، وتعددت مستويات قراءاتها بين ناقد وآخر، الأمر الذي يؤكد حيويتها وقدرتها على العطاء والتنوع في القراءة. ولأن النصوص المعطاءة غالباً ما تكون قادرة على النمو والتشكل وإثارة نزعة الخيال في ذهن المتلقي الذي يمارس قراءته الخاصة وفق مكوناته الثقافية والمعرفية، فإن قراءتنا ستكون سوسيونصّية، لاكتشاف جماليات تلك النصوص وتنقلات الكاتب السردية المتنوعة في تجسيد عوالم شخصياته الروائية ومركزية خطابه السردي. لا يمكن قراءة سرديات محمد حيّاوي قراءة نمطية، وإنما لا بد أن تملك هذه القراءة وعياً متيقظاً يستطيع تلمّس الشفرات السريّة للنصّ، تلك التي يمكن أن يبثها بواسطة جملة سردية أو مقطع حواري، وهو الأسلوب الذي اعتمده الروائي محمد حيّاوي منذ روايته الأولى (ثغور الماء – 1983) مروراً بـ(غرفة مضاءة لفاطمة – نصوص سردية 1968) و(طواف مُتّصل – رواية 1988) و(نصوص المرقاة – 1996). إذ تتمظهر في نصوصه السردية، القصصية والروائية، الكثير من شظايا التجربة الحياتية اليوميّة، لتكوّن مرتكزاً أو منطلقاً للنص السردي، وتكاد هذه المزاوجة، تكون بين الشخصي الذاتي والعام الابتكاري، أن تكون نقطة الارتكاز في الخلق الإبداعي وشرارة القدح لمعظم النصوص التي قدمها محمد حيّاوي على مدى الثلاثين عاماً المنصّرمة. قسّم الناقد جُبير كتابه هذا إلى أربعة فصول، الفصل الأول ضم عنوان دع النصّ يقُل مايشاء، ووجوه الحقيقة، وفيه يرى أن (البداية عتبة معلوماتية تقدم شحنة تخيّلية تتضمن بوادر من الأحداث). الفصل الثاني ضم هذه العناوين: الاحتراق في نار الرغبة، الاستدراك على ما تقدم والإشكال على ما تأخر. وأنا أختار، والانجذاب العاطفي، نلاحظ هنا وفيما تبقى من عناوين الكتاب أن عنونات الناقد محمد جبير، معظمها يصلح أن يكون عنواناً لنصوص شعرية أو قصصية، وهو بذلك يكسر قواعد عنونات النقد الصارمة والقاسية والفجة، وينحاز في الكثير منها إلى السريالية أو إلى تيار ما بعد الحداثة، وهنا تكمن جمالية جبير النقدية، الفصل الثالث ضم: الدخول في مثلث النار، والخيال، المرأة.

 الفصل الرابع ضم: الفراشة تعبر خطوط النّار، وبلاغة الصمت، ومحمد حيّاوي، سيرة ذاتية، والمؤلف، سيرة ذاتية.

 (جنائن السرد_ جدلية العلاقة بين القارئ والنص) 2019 دار التكوين دمشق. 159صفحة، كتاب مهم جداً وهو يحتاج إلى وقفات أطول وقراءات عديدة، لما يحتويه من معلومات تندرج ضمن تيارات النقد الحداثوي المدروس بعناية ودراية العارف. استخدم فيه المؤلف نظريته ورؤاه في الولوج إلى عمق النقد البعد الحداثة بأسلوب رشيق ولغة جزلة تنحاز إلى الشاعرية والفتنة الجمالية، مما يقرّب الكتاب من المتلقي كثيراً.

العدد 1104 - 24/4/2024