مدارس مُحاطة بالأسلاك الشائكة لا تُنتج جيلاً مُحبّاً للعلم
سامر منصور:
في العقد الأخير من الزمن تطورت المناهج كثيراً في سورية، وانتهى تقريباً أسلوب التّلقين ليحلّ محله أساليب تعليمية متطورة كالعصف الذهني وتعزيز التنافس الفطري بين الطلاب، من خلال تقسيمهم إلى مجموعات وتعزيز روح العمل والانجاز المشترك وقيم التعاون، ولكن المناهج الحديثة تحتاج إلى أدوات تعليمية لتكريس المنحى التفاعلي. فالمناهج الجديدة قد تطالبك بإحضار مكعبات لشرح أفكار مرتبطة بالرياضيات ومُجسّمات لكواكب وخرائط في حصص الجغرافية والعلوم… وكذلك يطلب المنهج الجديد من الأستاذ أن يصطحب التلاميذ إلى حديقة المدرسة في الدروس المرتبطة بالنباتات والأزهار والورود وغيرها.
إن الأدوات التي يعتمد المنهج التدريسي عليها غير متوفرة في كثير من المدارس، وحتى حدائق مدارسنا يزرعها الآذن خضاراً كي يأكل، فلم يعد فيها ورود ونباتات متنوعة كما في السابق.
ومع الأسف أرى أن الخلل الأكبر يكمن في الكادر التدريسي، ففي البلدان العربية المُفقرةِ للشعوب والتي يستولي الخوف من الفقر على ذهنية حتى من ليس فقيراً من أبناء الطبقة الوسطى يجري الضغط من قبل المعلمين والأهل على الأطفال كي يدرسوا ويتفوقوا ليتمكنوا من تحصيل شهادة جامعية مستقبلاً، ولا يأتي هذا في معرض حبّ العلم، بل في معرض الخوف من الفقر، فالفقير في المجتمعات المُتخلّفة يتعرّض للإذلال بطرق مختلفة، وهو كائن يمضي جُلَّ عمره بائساً ووقوداً لسعادة الآخرين. ولذلك يلجأ الأهل والمعلمون إلى تعنيف الطفل لفظياً وجسدياً وممارسة الضغوط عليه كي يدرس. والعنف والتعنيف ما هو إلاّ انتقام من الفقر والذلّ، وأقلُّ الشرين في نظر الأهالي والمعلمين لتجنيب الطفل حياة الضنك التي يعيشونها هم. ولذا نرى ونسمع عن حالات الضرب الشرسة في بعض الأحيان في المدارس بالمناطق الشعبية والفقيرة، بينما لا نجد شيئاً من هذا القبيل إلاّ نادراً جداً في مدارس المناطق التي تقطنها الطبقة المُخمليّة حيث التعليم مرغوب لحالة بريستيجية اجتماعية وليس مسألة صراع بقاء وخلاص من الفقر وذلّه المتشعب.
ويختلف شكل المدارس، فلعلّ الأجنبي يحسب المدارس لدينا سجوناً أو مصحّات عقلية عندما يراها من الخارج في الأماكن الشعبية، خلافاً للمدارس في الأحياء الثرية. إن العنف والتنمّر بين الأطفال أنفسهم المنبثق عن ثقافة عنف مجتمعية تتجلى في المناطق الفقيرة والشعبية، يُضاف إلى جملة العوامل التي تدفع الكثير من الأطفال إلى كره المدرسة والهرب منها وتركها. وقد تخلّى الكثير من الأهالي عن تعليم أولادهم في ظلّ الظروف المُعاشة وعدم كفاية ما يتقاضاه المتعلمون بعد تخرجهم خاصّة الذين يعملون في وظائف ويندرجون في فئة ذوي الدخل المحدود. وممّا قرأته في صفحة أحد الزملاء على فيس بوك في هذا المعرض: (في بداية العام الدراسي الجديد، العائلات الفقيرة تُطالب بإضافة بعض المواد الدراسية مثل أصول العتالة والتسوّل ونبش القمامة إلى المنهاج الدراسي، وذلك ضماناً لمستقبل أبنائهم).
وبرغم أن المناهج التعليمية أضحت جيدة جداً إلاّ أن ثقافة التلقين والتأطير الفكري وسلوك أسلوب التعليم القسري ما زالت مُتفشية بين المدرسين ما يجعل الطفل ينظر إلى المدرسة كبيئة غير مُحبّبة، بل كبيئة عدوانية وينفر منها ويتكرّس في عقله الباطن أن الألم والعنف والضغط النفسي دخل إلى حياته عندما دخلت إليها الكتب. وأعود لأقول: حتى في مراحل التعليم العالي يعوز العديد من المدرسين في الجامعات ثقافة الاحتواء واحترام الرأي الآخر وقبوله، فكثير منهم يذمُّ الآخر أمام الطلاب ولا يقبل تصويباً من طالب حتى لو أخطأ!
وسأختم مقالي بمقتطف من مجموعة قصصية للدكتور محمد عامر مارديني (وزير التعليم العالي ورئيس جامعة دمشق الأسبق) يتطرّق فيها لمسألة ارتباط التعليم بالعنف، فقد كتب في قصة بعنوان عريف الصف: (بعد فلقة الأستاذ كفّ الغزال عُدتُ إلى المنزل مكلوماً، دامع العينين، مهيض الجناح، مجروح القلب، حزيناً من غدر رفيق الصف، ليستقبلني والدي أبو مازن عند الباب ضاحكاً، مُرحباً بقدومي دون أيّ اكتراث لحالتي النفسية المُحطّمة، حاملاً قلم رصاص بني اللون استعداداً لتلقيني وتحفيظي أموراً جديدة بعد حفظي لجدول الضرب، وهي أبيات أمير الشعراء: قم ناج جُلّق وانشُد رسم من بانوا… مشت على الرسم أحداثٌ وأزمان، إلى آخر الأبيات. كان أبي يستخدم طريقة غوانتنامية لتحفيظ جدول الضرب، أو أيّ مسألة دراسية أخرى، وهي أن يضع عند بدء عملية التحفيظ قلم رصاص بين أصابع الولد المُستهدف، ثم يقبض عليها بهدوء وبمعظم كفّه، ثم يبدأ بعد ذلك بالسؤال قائلاً مثلاً: سبعة في تسعة؟ وفجأة، وقبل أن يبدأ الرأس في عملية الحساب، ومن دون أن ينتظر أيّة إجابة صحيحة كانت أم خاطئة، يضغط بشدة على الأصابع المتشابكة مع قلم الرصاص، فيشهق التلميذ المسؤول من شدّة الألم. بعد أن عشتُ مُغترباً لأكثر من خمس سنوات، تعلّمتُ خلالها جدول عدم الضرب لدى من كانت قبضاتهم أشدُّ وأقسى من قبضة أبي رحمه الله، وحتى ثخانة عصا الأستاذ كف الغزال).