شياطين وأنبياء

شروق ديب ضاهر:

يقال: التسوق متعة، لكن لمتعة التسوق في أسواقنا طعم آخر، مختلف المذاق مميز المِزاج تماماً كاختلاف مذاق حياة الحرب وتميُّز مزاجها، الباعة أضحوا متقنين لفنون خفة اليد والبهلوانيات واللعب بالبيضة والحجر، وبالدرهم والفناجين، فالسائر في سوق الخضار تطالعه عربات كتب عليها (تفاح كمش، خيار كمش، بندورة كمش)! منظر الخضار أو الفواكه المصفوفة فوق سطوحها يسر الناظرين ويبهج قلوب المتسوقين. وتكتمل لوحة الفرح باللون الأحمر الذي كتبت به أسعار (الكمش) المدهشة، والتي ترن لها بقايا النقود في الجيوب. يقترب طالب المتعة من العربة ويمد يده يريد انتقاء بضاعته، فيصعقه صوت صاحب العربة (اللطيف) مقعقعاً: اقرأ، اسم هذا التفاح كمش! لا يحق لك انتقاؤه! هذه مهمتي والأمر سيتم تحت ناظريك. يتلقف البائع كيساً أسود ويبدأ بحشو التفاح فيه بسرعة البرق، بينما يلاحق الزبون حركات يديه المكوكية بعيون متوجسة زائغة، ينهي البائع العملية بحركة بهلوانية يعجز عنها الغجر في السيرك، يلف بها الكيس ويعقده بعقدة يعجز عن حلها لقمان الحكيم، وفي المنزل تفتح الزوجة الصندوق الأسود القادم من سوق الخضار، وتطالعها حبات تشبه في شكلها التفاح وتختلف عنه ببانوراما ألوان العفن الذي يغلفها، يقف الزوج كالطفل المهمل أمام صحيفة نتائجه مبهوتاً. لقد رأيته بأم عيني التي سيأكلها الدود يضع أفخر تفاح عربته في الكيس، من أين أتى هذا التفاح المشوه العفن؟ سبحان من حوّل العصا إلى حيّة تسعى! 

تنظر زوجته إليه مشفقة: لكنني لا أرى أثراً للحيّة في كيسك السحري، ما أراه دودة تسعى في مناكب تفاحتها بعد أن عفت عن عينيك الناعستين!

المتسوق في سوق اللحوم يرى العجب، يدخل إلى (ملحمة الإيمان)، يشتري بضع أوقيات من ذهب اللحم الأحمر يقدّها الجزار أمامه من ذبيحة معلقة في السقف، تواجهها لوحة علقت على الجدار كتب عليها بالخط الكوفي (من غشّنا فليس منّا). يضع الجزار قطعة اللحم في آلة الفرم وينقلها من فم الفرامة إلى يد الخاروف البشري المبتسم الواقف أمامه، والذي يخرج من ملحمة الإيمان ليعرج على (فروج الأمانة) حيث يبتاع من صاحب الدكان أكبر دجاجة لديه، يذبحها وينتفها ويزنها ثم يلفّها بالكيس أمام ناظريه، وهناك في المنزل يقف أمام زوجته مثل وقفة صاحبه السابق، جاحظ العينين فاغر الفم، بينما تمسك زوجته في يمينها كتلة من الدهن الأبيض تشوبها بضعة عروق من اللحمة الحمراء وفي يسارها دجاجة لا يتجاوز حجمها حجم الحمامة! 

المتسوق الذي طلب رفاه الغذاء وفخامة الوليمة، وأراد تبييض صفحة المؤسسة لدى زوجته، بدعوة أهلها إلى وليمة أسماك ملكية سار في سوق السمك ودخل (مسمكة الاستقامة) وابتاع بضعة أرطال من سمك فاخر طازج، ذي عيون لامعة وغلاصم حمراء مخضبة وحراشف غضّة تفوح منها رائحة البحر اللجين. وهناك في المنزل انضمّ إلى صاحبيه السابقين في الوقفة نفسها، والدهشة عينها، فالأسماك استحالت بقدرة قادر إلى كائنات بحرية بعضها عوراء لا عيون لها، والأخرى سوداء الغلاصم نتنة الحراشف تفوح منها رائحة الأسن والتفسخ.

قيل إن الأنبياء بشر مثلنا، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، لكن البقاء في الجبّ، وسكنى بطن الحوت، وتجربة برد النار وسلامها، لهي أهون من المشي في أسواقنا.

في فوضى الحرب وضنك المعاش، يسعى كثيرون إلى ممارسة أفانين الغش والتلاعب، بذريعة تأمين لقمة العيش، وما نراه في الأسواق ما هو إلا سطح الأسن المنظور الطافي فوق المستنقع، وألاعيب هؤلاء تصنَّف بالظريفة أمام ألاعيب بعض ضعاف النفوس ممن يقبضون على ناصية المال والسلطة، وهي ترتقي في انحطاطها إلى مرتبة السحر الأسود، لكن مشهد البواسل على خطوط النار يفترشون جنازير الدبابات أسرّة لهم، بينما تخضب رمال الوطن وجوههم وبزاتهم، يجعلنا نؤكد جازمين أن المستنقع جفافه قريب وإن طال الزمن، وأن يوسف لا بد من الجب خارجٌ، ويونس لا بدّ من بطن الحوت ناجٍ، وإبراهيم لا بدّ من لظى النار سالم. لا مكان للشياطين حيث يوجد الأنبياء، لكن للرسالة استحقاقها ومسيرتها، ومن يفترش اليوم جنزير الدبابة ويلتحف الدخان والبارود، قادر غداً على المشي فوق سطح المستنقع وتجفيفه.

العدد 1102 - 03/4/2024