(الفسفوس) والصحفي

صفوان داؤد:

قلت له: ياصديقي لكم أنت صحفيٌ بائس! أليس كذلك؟

نعم، نعم، أعتقد ذلك، لقد تعرضت خلال حياتي المهنية بوصفي صحفيّاً وكاتباً لضغوط كبيرة بسبب الإشاعات التي قِيلت عنّي، فبعد نشر كتابي الأول اتهمني عدد من المعارضين للدولة السورية بأني عميل للأمن ومخبر لهم، وبعد نشر كتابي الثاني في إحدى الدول الأجنبية اتهمني موالون للدولة السورية بأني عميل للغرب. هكذا، في وقتٍ قصير، تحولت من صحفيّ مُحترم إلى مُخبر لـلدولة السورية وعميل لدولة معادية في الوقت ذاته. في البداية لم آخذ الموضوع على محمل الجد ولم أكترث لأحاديث الناس، ولكن لاحقاً بدأت أقاوم هذه الاتهامات، ولم تكن لتهزمني إطلاقاً لولا تلك اللحظة التي تخلّت فيها زوجتي عنّي، عندئذٍ سقطت أرضاً؛ فلطالما كانت هي الأرض الصلبة المعطاءة والخيرة التي كنت أقف عليها في عالمٍ من الوحل.

تحولتُ نفسياً، بشكل نكوصيّ، من (مواطنٍ بريء)، إلى (مواطن قلِق)، ثم إلى (فردٍ مدان حتى تثبت براءته). مع مرور الوقت، تدهورت حياتي الاجتماعية، وأصبحتُ، بالنسبة إلى عائلة زوجتي، مصدرَ خطر عليها وعلى ابنتيّ. ثم لاحقاً منعتني من رؤيتهما. هي لم تكافح للبقاء بجانبي فهجرتني، بعد ذلك ابتعد الأقرباء لأني (عميل)، والزملاء لأني (صحفي).

يا لشقاوتك! لماذا يحصل ذلك؟

يقول الكاتب ألبرتو مورافيا: (كل كاتب يملك مفتاحاً خاصاً به لفهم الواقع). ويرى ميكافيلي مثلاً أن البراغماتية هي مفتاح فهم كل شيء، وعند بلزاك المال هو المفتاح، وعندي، ولا أدّعي أني بعظمة من ذكرتهم، منطق (التشبيح) هو المفتاح، وهو منطق الاستبداد الذي جوهره العقاب والإخضاع من أجل تقويم المواطن وجعلهِ (طيّعاً ومصفّقاً جيداً)، في آنٍ معاً. منطق (التشبيح) هو منطق يتداخل ويتماهى مع منطق السلطة، وهو نفسه منطق المجتمع الصامت، ومنطق الأسرة عندما يكون أحد أفرادها مختلفاً جذرياً، وبمجرد أن تكون متواضعاً طبقياً وضد السلطة، فالتشبيح هو علاجك الوحيد، وأول غيثه اتهامك بالعمالة والعواينية. في حياتي العائلية فُرض عليّ هذا المنطق. وماذا كانت النتيجة؟ لم يعد لديّ خيار سوى التقوقع بين الكتب والكتابة، أو الحلم بالهروب من هذا الكابوس الذي اسمه (وطن)، وإن كنت أعترف بأني في المرحلة الأخيرة من حياتي وأثناء مراجعتي لكتابي (الجذور الفاسدة) قد استلطفت العزلة، فهي أفضل بشكل لا يقارن مع وسط يكيل لك اتهامات (الشخص السيئ، صديق المعتوهين، الموظف الجحش، لأنك لا ترتشي، وأكثرها سوءاً: المخبر الدنيء)، هذه الاتهامات لم تمنعني من أن أميّز المُخبر من غيره، وجدته في كل مكان، بائعاً، حارساً، معلّماً في مدرسة، شيخ جامع، فنّي، سائق. وفي مكان العمل، عمله الفعلي هو الملاحظة وتسجيل ميول زملائه وتوجهاتهم. في الواقع من الناحية الوظيفية يسمى هذا الموظف (مخبراً رسمياً) لأن عمله الأساسي في الحياة هو كذلك.

هناك فئة ثانية من المخبرين وهي فئة (المخبرين غير الرسميين)، هم ليسوا على ملاك جهاز حكومي، إنما أشخاص مدنيون امتهنوا هذه المهنة لأسباب عديدة أهمها الحمائية، بمعنى حماية أنفسهم من الاعتقال بسبب قيامهم بأعمال غير مشروعة أو غير قانونية، ويأتي الدافع المادي سبباً آخر. مهما كان نوعهم يشترك المخبرون الرسميون وغير الرسميين بنقاط مشتركة، أهمها عدم الشعور بالذنب واللامبالاة. وكتعبير ثقافي عن مأساة المواطن السوري لا يخلو من الفكاهة، صوِّر المخبر في الذاكرة الجمعية السورية بتعبيرات تراجيدية ساخرة مثل وصفه بأنه (كتّيب)، وفي الثقافة الدمشقية هو (عوايني)، وفي الشمال السوري (جهاز مناعة) وفي الساحل يسمى (فسفوس). والصفة الثابتة له في كل المناطق السورية أن (خطّه حلو).

عموماً، كثير من تقارير هؤلاء المخبرين تقع ضمن خانة الكيدية أو حماية بعض النافذين، بذريعة (إضعاف الروح الوطنية) أو (هيبة الدولة)، دون أن يكون لها أيُّ أساس من الصحة. هذا ما جعل أحد نواب مجلس الشعب السوري، وهو السيد نبيل صالح، يعترف بطريقة (مهذّبة) بهذه المشكلة، وقال تحت قبة البرلمان إن (كتّاب التقارير خربوا عمل المؤسسات الأمنية، وضلّلوا مديريها، كما خربوا سمعتها، حتى بات عموم الناس يصنفون كل العاملين في هذه المؤسسات على مستوى واحد باعتبارهم أشراراً). ودعا إلى اجتماع في مجلس الشعب عبر (لجنة الأمن الوطني) فيه لحل هذه المشكلة. وباستثناء هذه الحادثة اليتيمة، لم يُناقَش لاحقاً إنهاء دور المخبرين أو إخضاع عملهم لسقف القانون السوري أو محاسبة من أخطأ منهم، أو رفع مشروع تعويض من تعرّض من المواطنين لأذى من تقاريرهم، فهذه الأمور حتى الآن تصيب نواب مجلس الشعب الكرام بنوبة نوم عميقة.

حسناً يا صديقي، قل لي في النهاية ماذا يجمع (الفسفوس) والصحفي، برأيك؟

نعم، بفزعة (الخط الجميل) يجتمعان، الأول خطُّه مرعب للشعب، والثاني خطّه مرعب للحكومة.

العدد 1102 - 03/4/2024