كي لا ننسى | نزيه جلاحج.. الشيوعي المليء بالتوق لحياة أفضل

يونس صالح:

جاءني الخبر بوفاة نزيه جلاحج مفاجئاً، وصعباً، لم يخطر بالبال أبداً أننا نحن الأكبر سناً سنودعه الوداع الأخير، لا أدري ما هو السبب؟ فعندما تعرفت عليه في أوائل عام 1962 وكان آنذاك يافعاً لم يبلغ من العمر إلا 12 عاماً، وكنا نحن قد تجاوزنا العشرين، لا أدري السبب في أنني لم أكن أستطيع أن أنظر إليه إلا كطفل. أجل، كان يملك قلب طفل، وأتذكر أنني التقيت معه فيما بعد عندما أصبح كهلاً، ومتقاعداً، مع بعض الأصدقاء في منزل أحدهم، تحدثنا عن الأدب والشعب، وألقيت أمامهم بعض الأبيات من قصيدة تتحدث عن الليلة الأخيرة من حياة الضباط الوطنيين الإيرانيين، بعد انقلاب الشاه ضد حكم مصدق الوطني. لقد أخذت الدموع تنساب من عينيه تأثّراً، لقد بقي طفلاً في أعماقه حتى أعوامه الأخيرة. كان الفارق بيننا 6 سنوات إلا أنه كان يبدو كبيراً في مرحلة الفتوة والشباب، ويتناقص عندما يبلغ الإنسان سن الكهولة والشيخوخة، وتصبح هذه الفوارق غير ملموسة.

انتسب نزيه، وهو شقيق الصديق والرفيق العزيز نبيه جلاحج، في أوائل عام 1962 إلى الحزب الشيوعي، وكان في ريعان فتوته، عندما انخرط بكل ما يستطيع من اندفاع في معمعان الحراك العاصف الذي كان يهزّ المجتمع السوري. كنت على علاقة حزبية معه ومع مجموعة من الشباب، وكم كنت أشعر بالتفاؤل والأمل عندما كنت ألتقي بهم أنا الأكبر سناً! كنت أستمد منهم القوة والإصرار على الاندماج بصورة أكبر في المسيرة الطويلة على درب العدالة الإنسانية. لا أستطيع إلا أن أتذكر تلك الطاقة والحيوية التي كان يمتلكها هذا الشاب. وكم هي المبادرات والنضالات اليومية التي كان يقوم بها هو ورفاقه، وهم طلاباً لم يزالوا في المرحلة المتوسطة! وكم هي الخدمات الصغيرة، ولكن التي لا يمكن الاستغناء عنها، قدمها ذلك الشاب، مع رفاقه للمنظمة الحزبية في حيّه، وللحزب بصورة عامة! افترقت عنه لمدة عامين أو ثلاثة على الأغلب ولم أسمع بأخباره، بيد أنني فوجئت برؤيته في موسكو عام 1966. جاء طالباً وكم كان سروري كبيراً برؤيته! ولقد بقي كما عهدته مندفعاً ونشيطاً ومتواضعاً، مبتسماً على الدوام. وضع نفسه في خدمة الحركة الطلابية الديمقراطية الناشطة آنذاك خارج الوطن، وانخرط فيها من الباب الواسع.

لقد استطاع وبمهارة أن يوفق بين اندفاعه الجموح في النشاط الطلابي الديمقراطي، ودراسته الجامعية، ويتخرج مهندساً، ويعود إلى وطنه اختصاصياً في الهندسة، ويتسلم في البلاد عدداً من المسؤوليات الفنية، قام بها على أفضل وجه، ويشهد بذلك من عمل معهم في هذه المؤسسات. موقفه من العمل كان مبدئياً وصارماً، ويتعامل مع الجميع بنزاهته الصارمة، إن هذا الموقف كان نتاج تراث الأسرة العريق في هذا المجال.

الذكريات كثيرة مع نزيه، وآخرها ذكريات قدسيا، وزياراتنا المشتركة إلى الصديق القديم فاضل جنكر، والأحاديث التي كنا نتبادلها حول كل شيء. كان ارتباطه بالوطن عميقاً، وكان ألمه مما جرى في الحزب من انقسامات كبيراً. لقد ابتعد تنظيمياً عن الحزب إلا أن توقه نحو دور أفضل للحزب في حياة البلاد كان كبيراً.

بوفاته المفاجئة فقدنا صديقاً ورفيقاً، قدم نموذجاً يحتذى في السلوك الإنساني، والمبدئي والوطني، هذا النموذج الذي نحتاج إليه كثيراً في ظروفنا المعقدة التي نعيشها الآن.

لتكن ذكرى هذا الشيوعي النبيل باقية في أفئدة أجيال المناضلين الشباب من أجل العدالة ومن أجل إنسانية الإنسان.

العدد 1102 - 03/4/2024