العمل والذكاء الاصطناعي

د. أحمد ديركي:

يشهد العالم أزمة اقتصادية حادة منذ عام 2008 ومازالت تداعياتها قائمة، وإن كانت (الأزمات الدورية) سمة ملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي، إلا أن  الراهنة أكثر تعقيداً وهذا أمر بديهي ناجم عن تطور في نمط الإنتاج. فالرأسمالية بصيغتها الحالية ليست كما كانت في مرحلة تشكّلها (طفولتها)، ولا هي مشابهة لمرحلة بداية تسيّدها (شبابها)، ولا هي، حالياً، في مرحلة (شيخوختها)، أي الانهيار أيضاً، كما يحلو للبعض تخيّلها، على قاعدة الفكر الخلدوني.

الرأسمالية حالياً اليوم أكثر انتشاراً وهيمنة مما كانت عليه في السابق. مع تطورها، وطبعاً لن يكون هذا التطور أزلياً بكونها تنتج (حفّاري قبرها)، وصولاً إلى حد أنها أصبحت النظام الأوحد الذي يحكم العالم في هذا القرن، هناك ما يُشير إلى أن  (حفّاري قبرها) هم أيضاً على درب (يا عمال العالم اتحدوا)، وإن ظن البعض أن  هذه المقولة تصلح للذكر في كتب التاريخ فقط.

فمع تطورها، تطورت آليات عملها وأصبحنا نسمع بمفردات لم تكن موجودة منذ فترة قصيرة. من هذه المفردات (الاقتصاد الرقمي)، و(الكساد التضخمي)، و(البيت كوين_ bitcoin) … وغيرها وغيرها من المفردات، لكن مفردة (الذكاء الاصطناعي) (artificial intelligence – AI) تأخذ، حالياً، حيزاً لا بأس به.

ما من مؤتمر اقتصادي عالمي إلا تطرق لهذه المسألة، وما من مؤتمر عالمي، بغض النظر عن موضوعه، الا وتطرق لها أيضاً… إلى حد أن  أصبحت لازمة لا بد منها أينما ذهبنا في العالم.

(لازمة لا بد منها أينما ذهبنا في العالم) يعني أنها مسألة لا تخص بقعة جغرافية محددة، بغض النظر عن مدى تطورها أو تخلفها. طبعاً ما فارق شاسع في عملية التأثير، ما بين بقعة منتجة وبقعة مستهلكه.

قد يكون أبرز الأدلة على هذه المسألة، مسألة (الذكاء الاصطناعي) التي غزت المجتمعات البشرية أينما وجدت، ما يحمله كل فرد في يده ولا يمكن أن يستغني عنه: إنه (الهاتف الخلوي) وهنا لا بد من اجراء عملية تصحيح: لم يعد اسمه (هاتف خلوي)، بل أصبح اسمه (الهاتف الذكي_ smart phone)! إنه ذكي ولو كنا مجرد مستهلكين له، وبخاصة لسكان دول العالم الثالث، فيصبح (لزوم ما لا يلزم)!

ما كان لاختراع ألكسندر غراهم بل (Alexander Graham Bell): الهاتف، أن يشهد الحياة ما لم يكن له (جدوى اقتصادية) و(تسهيل العمل). المقصود بـ(تسهيل العمل) اختصار الوقت قدر الإمكان لإنجاز العمل، وتخفيض كلفة الإنتاج وفقاً للمقولة الرأسمالية المشهورة: (الوقت يساوي المال).

مع تطور نمط الانتاج الرأسمالي واستثماره في حقل الاتصالات، بكل تفرعاته، بصفته حقلاً يحقق المزيد من الأرباح، تطور الهاتف ليصل إلى مرحلته ما قبل الراهنة: (الهاتف الجوال)، أو (الخلوي)، وأصبح بالإمكان (تسهيل العمل) أكثر، وها نحن اليوم في مرحلة الراهنة (الهاتف الذكي) (smart phone).

لم يأتِ تغيير الاسم، وبالأصح المفهوم، من عبث، فما من شيء عبثي. (الهاتف الجوال) (mobile phone)، تعني مقدرة (الهاتف) على التجوال أو التنقل، في يد حامله، و(الخلوي) (cell phone)، لا تعني ولا مشتقة من (خلية) (cell) بالمعنى البيولوجي، بل تعني (البطارية) (battery) لذا أُطلق عليه (cell) كونها مرادفة لكلمة (بطارية)، وتحديداً ذاك النوع من (البطاريات الجافة) (dry cells)، أي التسمية الدقيقة له (هاتف البطارية).

يبدو أننا اليوم على أبواب الجيل الخامس (G5) منه، وقد يكون هنا جوهر الصراع ما بين عملاقي الهواتف الذكية iPhone وHuawei هو على من يحتكر تقنية (G5)، والمتوقع أن تصبح في الخدمة في القريب المنظور.

(هاتف ذكي) يمكنه تخزين كم أكبر من المعلومات، ومعالجتها بسرعة أكبر، وإعطاء نتائج المعالجة بسرعة كبيرة. أي أن جوهر (الهاتف الذكي) قائم على 3 أسس: 1) الكم التخزيني للمعلومات، 2) سرعة المعالجة، 3) سرعة في إعطاء النتائج وإمكانية استرجاع المعلومات، ما قاد إلى مصطلح جديد مرفق به (التعلم الذاتي للآلة) (machine learning). مصطلح جديد يعني: نموذج من البرمجيات (software) يمكنه أن يتعلم من دون أن يبرمَج، والبرامج تعلم ذاتها كي تكبر وتتغير عندما يضاف إليها معلومة جديدة. وتستكمل حلقة (الذكاء الاصطناعي) لنصل الى مرحلة يمكن القول فيها بشكل مختصر (الآلة تفكر)، وحينئذٍ نتوه في تفسير مقولة ديكارت (أنا أفكر، إذاً أنا موجود) ما إذا قُصد بـ(أنا) الإنسان أو الآلة!

عبر هذه الآلية التقنية المعقدة أصبح بالإمكان (تسهيل العمل) بشكل أكبر، مضافاً إليه جودة المنتج لخلوها من الأخطاء البشرية.

(الهاتف الذكي) صُنع لهذه الغاية، للمساهمة في عملية (تسهيل العمل)، وليس كما يستخدمه معظمنا، في دول العالم الثالث، لإظهار الموقع الاجتماعي لحامله! وهذا موضوع آخر يتعلق بثقافة الاستهلاك.

مع كل تطور علمي يُصيب (الهاتف)، طبعاً الهاتف مثال فقط، (يسهل العمل)! لمَ كل هذا القدر من الاهتمام بتسهيل العمل؟ من أجل راحة العامل؟ الإجابة كلا، بل للتخلص منه!

الهم الأكبر في نمط الإنتاج الرأسمالي زيادة نسبة الربح من خلال تخفيض كلفة الإنتاج إلى حدها الأدنى. هل هذا يعني السعي من قبل الطبقة البرجوازية، وحلفائها، الوصول إلى (صفر كلفة إنتاج) إن أمكنهم هذا؟ الإجابة: نعم.

تحمل الإجابة عن السؤال السابق تحد للطبقة البرجوازية في الوصول إلى هذه الرقم: صفر كلفة إنتاج. ما العائق الأساسي أمام الوصول الى هذا الرقم؟ بالتأكيد العائق الأساسي ليس التطور العلمي و(الذكاء الاصطناعي)، الذي ما زال في بداياته، بل الطبقة العاملة (حفارو قبر) نمط الانتاج الرأسمالي. فـ(الذكاء الاصطناعي) بدأ يحل مكان العديد من العمال في العديد من الوظائف، حتى تلك التي تستلزم مهارات معينة، ما كان يعرف بـ(الياقات البيض). وحالياً تحاول البرجوازية إظهار (الذكاء الاصطناعي) على أنه الحل للأزمة الاقتصادية وتستثمر به بشكل رهيب، موهمة الجميع أنه يخلق فرص عمل أكثر مما يدمر. من هنا أصبحنا نسمع بـ(مستقبل العمل) في العديد من المؤتمرات الدولية الاقتصادية وغير الاقتصادية. لكن للأسف كل لغات هذه المؤتمرات لغة البرجوازية، فهل يمكن أن نسمع صوت نقيضها في هذه المسألة؟

العدد 1104 - 24/4/2024