التعصب والتخلف صنوان لا يفترقان!

محمد الزبيدي:

في مقالتي هذه سأسعى للتطرق إلى مسألة (التعصب) التي أراها ملحة في ظرفنا الراهن، وربما كانت سبباً أساسياً لهذا التردي الذي يعيشه عالمنا العربي والإسلامي في هذه الأوقات الصعبة!

وإذا رجعنا إلى الوراء قروناً عديدة، لرأينا أن التعصب كان باستمرار يقف وراء كل المظالم والمجازر والاضطهادات التي حدثت في عالمنا العربي والإسلامي! كان التعصب باستمرار يستخدم العقيدة ستاراً لإلغاء الآخرين، وبمقدار ما كان التعصب يسيطر على واقعنا، كانت حالات التردي والتخلف والانحطاط تتمكن أكثر فأكثر في هذا الواقع. فالانحطاط والتخلف مرتبطان بعلاقة التعبير عن التلازم بين النتيجة والسبب. ربما كان هذا الأمر (التعصّب) مفهوماً في العصور السابقة بالنسبة لنا. فالتطور الاقتصادي والاجتماعي الذي كان سائداً آنذاك، ربما كان يخلق أرضية اجتماعية لهذا الفكر. أي باختصار: إن المرحلة التي كان يعيشها عالمنا العربي والإسلامي خلال قرون كثيرة، كانت تتميز بحدة الصراعات وتفاقمها حول المصالح، التي كانت تستتر بالإيديولوجيا الدينية لإخفائها، كانت هي السمة السائدة، ولكن لم يعد مقبولاً أن تستمر هذه الظاهرة إلى عصرنا الحالي، الذي تسيطر فيه العولمة، والعالم بأسره يتجه نحو إيجاد تكتلات إقليمية من أجل الدفاع عن المصالح، وفي زمن أصبح فيه الحوار بين مختلف الأمم، فضلاً عن الأشخاص، لغة ضرورية لدوام التعايش وتحقيق المصالح حتى بين الأعداء والأصدقاء.

ففي عصرنا هذا أصبح الاختلاف أمراً طبيعياً لابد من حدوثه، وهو نتيجة للتنوع الواسع الذي تتسم به مجتمعاتنا المعاصرة، والذي يحتم هذا الاختلاف، على صعيد المدارك والفكر والمصالح، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه في عالمنا هذا بالذات: لماذا لا نزال نرى أن التعصب القائم على الإلغاء قائماً إلى وقتنا الحاضر في مجتمعاتنا التي لم تدخل بعد إلى عالم المعاصرة: التعصب للمذهب، التعصب للطائفة، التعصب للحزب، التعصب للإيديولوجيا؟ وأينما سرنا نصطدم بهذه الظاهرة التي تشد مجتمعاتنا إلى الوراء، إلى القرون السابقة، وتمنع انخراط مجتمعاتنا في العصر وفي صنع الحضارة الإنسانية!

إن التعصب هو إساءة لاستخدام الأفكار، ووضعها في إطارها غير الصحيح، فإساءة استخدام العلم، على سبيل المثال، وهذا الأمر كثيراً ما يحصل، لا تعالج بإغلاق المصانع القائمة على العلم، أو مثلاً: إساءة استخدام الحق لا تقوم بإهدار هذا الحق والدعوة إلى مجتمع بلا حقوق. نحن لا نقصد الإساءة لاستخدام الدين والتهجم على الأفكار الدينية أو غيرها من خلال إساءة استعمالها، فالأفكار الدينية والاعتقاد بها هي حق إنساني مرتبط بحرية الإنسان في اعتقاده، أما أن يفرض عقيدته على الآخرين قسراً، فهي إساءة لاستعمال عقيدته، وهي تدخل في أساس التعصب.

ورغم كل الظلام الذي اتسمت به العهود القديمة في مجتمعاتنا، من إلغاء للآخر وتعصب وظلم، كانت هناك نقاط مضيئة، فالاجتهاد الذي طُرح في صدر الإسلام كان يمكن اعتباره تعبيراً جنينياً عن حرية الفكر، فكيف بالأحرى الآن؟ في هذا العصر الذي تُطرح فيه بشدة مسألة التمازج بين الشعوب، في مرحلة أصبح فيها التواصل الاجتماعي متاحاً للملايين من سكان هذه الكرة الأرضية، والذي لابد أن يمارس تأثيره بصورة فعالة في تحقيق التلاقح بين مختلف ثقافات شعوب العالم، في الوقت الذي لايزال التعصب متمترساً في عمق مجتمعنا العربي وأدى إلى كوارث لا يمكن الاستهانة بها. لقد أصبح التخلص من التعصب مهمة كل إنسان حريص على شعبه وعلى أمته وعلى دورها في رسم الحضارة الإنسانية، ومن دون الخلاص من هذه الآفة، مهما كان شكلها، لا يمكن لنا أن نتخلص من القيود التي تشدنا إلى الوراء وتحول دون دخولنا إلى الحضارة الإنسانية المعاصرة.

لقد آن الأوان لإعادة النظر في كثير من دواعي التشرذم والخلاف الذي سببه التعصب، فالتخلف في بلادنا ليس بسبب التنوع في المعتقدات والعقائد والآراء والمذاهب، وإنما يكمن في التعصب لها، الذي أدى ويؤدي إلى التشرذم ويحول دون توحيد الأمة حول القضايا المركزية التي تهم شعوبنا كافة. إن مهمة كل تقدمي، كل إنسان حريص على وطنه وعلى شعبه، أن يبذل كل ما يستطيع من جهود من أجل القضاء على هذا المرض الذي اسمه (التعصب)، إنها المهمة الأولى من بين كل المهام، وعلينا جميعاً أن نكون على مستوى هذه المهمة.

العدد 1102 - 03/4/2024