تصورات مختلفة عـن الأزمة ومفهومها

يونس صالح:

ما هي الأزمة بشكل عام؟ وما تعريف أزمة الفكر المعاصر على وجه الخصوص؟

برغم أن تشخيص الأعراض قد يكون واحداً، إلا أن ظاهرة تناول المصطلح عندنا تثير إشكالية لابد من التعرض لها.

فما تعريف الأزمة بصفة عامة، وما تعريف أزمة الفكر العربي المعاصر على الخصوص؟ واضعين جانباً بصفة عامة، ومن حيث المبدأ، علامات تلك الأزمة ومظاهرها من جهة، وأسبابها والحلول المقترحة لها من جهة أخرى، وذلك بالنظر إلى المساحة المحدودة المتاحة أمام حديثنا هذا.

إن السؤالين اللذين أشرت إليهما فضلاً عن أهميتهما الذاتية، يكوّنان وحدة مترابطة، ولعله يخرج من دراستهما مغزى مهم هو ظاهره بحد ذاته: هذا المغزى قد يسميه البعض مظهر الاختلاف الشديد بين العقول على النظر إلى ظاهرة واحدة، وقد يسميه البعض الآخر مظهر الثراء في التناول وغنى التحليلات والتشخصيات وتعددها بما قد يدل على الصحة لا المرض، ويكون ظاهرة إيجابية لا سلبية.

إن الاختلاف في تعريف مفهوم (الأزمة) وتطبيق هذا التعريف على حالة الفكر المعاصر، وفي وضع تلك الأزمة في إطار زمني محدد هو إذاً ظاهرة صحية يجمع الكل عليها. وبالتالي من شأن عرض مختلف المواقف وطرق التفكير المتعلقة بهذا الموضوع أن يكون تأكيداً بقبول التعددية في الرأي والتعود على احترام الرأي الآخر ومحاولة إدراكه (في ذاته)، وبصرف النظر عن تأييد للرأي المعارض أو الوقوف على الحياد. وباختصار إن الهدف هو أن نتبين مختلف الآراء المنطلقة من آفاق متنوعة وفق افتراضات وأسس متباينة حول الظاهرة نفسها، ولربما يكون في هذا مادة لدراسة الباحثين في المعرفة من الناحية الاجتماعية أو ما يسمى (علم اجتماع المعرفة).

ولنبدأ من تعريف مفهوم (الأزمة).

لا توجد هنا آراء كثيرة وربما يعود السبب في ذلك إلى تماثل أو تقارب الكثير من الآراء بهذا الخصوص، ومع ذلك هناك بعض الآراء التي ميزت نفسها، وقامت بمحاولة لإعطاء تعريف شامل لهذه الظاهرة.

يقول الرأي الأول إن الأزمة أو الأزمات، على وجه العموم، وفي نهاية المطاف هي (أزمات نمو) أو (أزمات تقدم) وليست بأي حال علامات (فشل) أو (إخفاق)، باعتبار أنها تعكس (منغصات) أو لحظات (تحول) يتأكد فيها عجز الأساليب والأدوات القديمة والمعهودة عن استيعاب الوقائع والمعطيات الجديدة.

وهناك تعريفان ثان وثالث تابعان للرأي الأول: (تعني الأزمة في معناها القاموسي المعجمي والضيق: اشتداد الحال إلى حد الاختناق مثلما يأزم القوم عندما تصيبهم صروف الدهر وأوزاره ومحنه، أو حينما (يعضّهم) الدهر وينيخ عليهم بكلكله. كما تعني القحط وما يسببه من اشتداد الحال وضيق المعاش. أما في معناها الشائع والمتداول فإنها تعني كل تغير مباغت يحدث فجأة فيؤدي إلى تحسن الأحوال أو تدهورها، فيقال مرت الأزمة على خير، أو مازالت الأزمة قائمة).

ورأى آخر يقول (إن مفهوم الأزمة يراد منه في الأغلب الأعم أن يكون مرادفاً للكارثة، أي للوضعية غير المرغوب فيها. وفي هذه الحالة تختلط العناصر الذاتية في التحليل بالمعطيات الموضوعية، مما يؤدي إلى البلبلة الفكرية). ومن جهة أخرى يشير هذا الرأي إلى أن ذلك المفهوم في الاستخدام الغربي ارتبط بالتحولات والثورات الكبرى التي أدت إلى المجتمع الصناعي). و(عكس المفهوم المرحلة الانتقالية داخل هذه التحولات، فقد حددت الأزمة ملامح التوتر المؤدية إلى نظام في المجتمع والاقتصاد والثقافة، مخالف للنظام القائم). (الأزمة هنا اختلال في النظام القائم، اختلال مؤقت وعارض، تتولد عنه في سياق التطور والتحول ممكنات تعيد صياغة نظام العلاقات ضمن زمانية مفتوحة على التحول المتواصل).

إن الاستعمالات الراهنة للمفهوم التي استفادت من الأدوات المنهجية المستخدمة في مجال العلوم الإنسانية، أدت إلى النظر حسب هذا الرأي إلى موضوع الأزمة من زاوية نسقية مركبة، وأصبح المفهوم أداة لتشخيص أبعاد الظواهر المدروسة، ولم تعد الأزمة مرضاً أو عرضاً مرضياً، بل تحولت إلى مسألة موضوعية يلزمنا التعايش معها، لأن ربط الأزمة بالنسق العام للمجتمع والفكر أدى إلى اعتبارها (مسألة حيوية). والنتيجة المنهجية لهذا المنظور هي أنه يجب تشخيص معطيات الأزمة وتحليل أبعادها، للتمكن من الوصول إلى ما يساعد على (حسن إدارتها) وتدبير النتائج المترتبة عنها.

أما التعريف الأخير لها فينص على أنها موقف مشكل مستمر لا يجد الواقع فيه مخرجاً إيجابياً منه.

نأتي الآن إلى السؤال الثاني: كيف نحدد أزمة الفكر العربي المعاصر؟ وهنا ستجد التعريفات أكثر بكثير مما كانت عليه الحال مع السؤال الأول، وهي ستدور بصفة عامة في دائرة البدائل التالية: أزمة واحدة أم أزمات متتالية؟ أزمة الفكر وحده أم أزمته مع أزمة أو أزمات كيانات أخرى من مثل المجتمع والسياسة والواقع، أو الثقافة أو العقل؟ وهل هي أزمة الفكر عموماً أم أزمة جانب نوعي من الفكر، هو الفكر السياسي، أو ذلك القومي مثلاً أو غير ذلك؟

ونعرض الآن مختلف الآراء التي حاولت تعريف أزمة الفكر العربي المعاصر، ولنبدأ بالرأي الأول الذي يرفض وجود أزمة للفكر، فيجري التمييز بين ما هو (حكم قيمة) يعبر عن شعور ذاتي، وما هو (حكم واقع) يعبر عن واقع حقيقي موضوعي، ويخلص هذا الرأي إلى (عدم رجاحة الكلام عن الأزمة في مستوى الفكر، أي فكر بالمقاييس والمعايير نفسها التي نتحدث بها عن الأزمة في عالم الاقتصاد والسياسة والمال وغيرها).

أما الرأي الثاني، فإنه يبدأ بتحديد غير مباشر للأزمة بأنها أزمة غياب الفكر النظري النقدي التأسيسي، ويرى بعد ذلك في نظرة أخرى أن هناك أزمة في الفكر العربي المعاصر، وأنه لا سبيل إلى فصلها عن أزمة الواقع العربي نفسه موضوعياً وتاريخياً. ولذلك فإنه يصك له اصطلاحاً جديداً، حين يقول إنها (أزمة التباس مزدوج). وتؤرخ هذه الأزمة بعصر النهضة وبما يسمى بصدمة الحداثة، أي هذا اللقاء الدرامي بين الواقع المتخلف والواقع الأوربي الوافد بفكره وأطماعه وعلمائه منذ مطلع القرن التاسع عشر، وهو يرى أن الأزمة ليست مجرد أزمة تفاوت في المستوى الحضاري، كما لا يحصر الأمر في محاولة اللحاق بالغرب، ويعتبر أن (اللقاء بين الأنا العربية والآخر الأوربي لم يكن بداية التحديث في فكرنا وواقعنا العربيين، وإنما كان أساساً بداية لأزمتهما التحديثية).

إن هذا الرأي يشخص الأزمة في (ثنائية تتمثل في هذه العلاقة الملتبسة المتأزمة بين الأنا العربية المتخلفة والآخر الأوربي المتحضر)، وهي ليست ثنائية التخلف والتقدم، بل وثنائية قائمة في قلب هذا الآخر الأوربي هي تحضّره من ناحية، وعدوانه واستعماره من ناحية أخرى. ومن هذا الالتباس بين الأنا والآخر، من حيث مستوى التحضير، ومن حيث الالتباس داخل الآخر نفسه بين التحضر والهيمنة الاستغلالية الاستعمارية، برزت أزمة مزدوجة كذلك في الفكر العربي وفي الواقع العربي على السواء، وتتمثل أزمة الفكر العربي على الخصوص في أنه منذ اللقاء الأول مع الآخر الأوربي لم يستطع أن يجيب عن أسئلة الواقع، وبالتالي لم يستطع أن يقدم حلولاً ناجعة لهذه الأسئلة. يؤكد هذا الرأي أن الأزمة المستمرة قد تخف حيناً وتكاد توحي بالانفراج، ثم تتعمق الأزمة حيناً آخر وتصل إلى التمزق والمأساة كما هو حالنا اليوم.

يعيد هذا الرأي إيجاز معنى الأزمة الواقعية والفكرية معاً: أزمة تخلف وتبعية، أزمة معرفة وأزمة تنمية وأزمة نظام وأزمة حكم وأزمة تفارق صارخ بين مستويات الثروة التحضر ومستويات المعيشة والديمقراطية والعلم والثقافة، أزمة علاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني، أزمة هيمنة خارجية استغلالية على مقدرات حياتنا ومنطلقات تنميتنا الاجتماعية والثقافية. إنها في النهاية أزمة فكر نظري نتيجة لمختلف هذه الأزمات المتداخلة، ونتيجة فقدان الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وتجديده.

هناك رأي ثالث يقول بأن الفكر في حالة إبداع أم خمول هو دوماً في أزمة، أزمة خلق أو تعثر خلق. الأزمة إذاً موجودة دوماً وأبداً، إنما السؤال الحقيقي يجب أن يكون عن عطاء الفكر، عن تدني إنتاجه، عن السبب في محدودية آفاقه وتقزم إبداعه، وعن حالة الحصار التي يعيشها بالنسبة للفكر العالمي، وعن شتات هذا الإنتاج وضياعه العنيف بعضه عن بعض في الميدان السياسي خاصة.

أما الرأي الرابع فيقدم تصويراً أول لأزمة الفكر المعاصر بأنها تقوم على الخلل الظاهر الذي يجعل العقل العربي غير قادر على استيعاب التحولات العظمى في العصر الحدريث، وغير قادر بالتالي على إفراز فكر قادر على التعامل مع هذه التحولات كما هي، لا كما يفترض هذا العقل أن تكون. ويؤكد هذا الرأي على أن الأزمة المعاصرة للثقافة العربية، ومن ثم العقل العربي، إنما تقوم في أن هناك لديه مجموعة من المفاهيم والتصورات والقيم التي اكتسبت صفة الثبات المطلق، بل السكون، وفقدت بالتالي الصلة مع الواقع أو المحيط المتغير، فأصبح الإدراك الذي تنقله والأحكام الصادرة عنها، إدراكاً وأحكاماً مزيفة أو مشوشة على الأقل. إن المأساة التي نواجهها هي مشكلة منهجية في المقام الأول، إذ لا نكلف أنفسنا تغيير المفاهيم وإعطائها مضموناً معيناً قبل الخوض في جدل معين.

أما الرأي الأخير في هذه المقالة فيعتبر أن الأزمة لدينا ليست أزمة فكر وحسب، بل أزمة شاملة، فإذا أخذتها من حيث هي أزمة ثقافية فإنها تحدد على أنها أزمة الفشل في التعامل الناجع مع الواقع. إنها أزمة الفشل في تحديد الهوية (بإزاء الآخر وبإزاء الذات)، أما من حيث هي أزمة الفكر بالمعنى الدقيق، فإنها تظهر في مظهرين:

– فشل موجات الفكر السابقة المتتالية في حمل المجتمع والثقافة نحو نتائج إيجابية مقبولة.

– فشل المفكرين في العصر الأخير في تقديم فكر قومي شامل متسق يلتف حوله أعضاء المجتمع إيجاباً وسلباً.

هذه إذاً تصورات مختلفة ومتباينة للواقع نفسه الذي نعيش فيه، ولعل جمع هذه التصورات يساعدنا على إبراز مكامن الاتفاق، وخاصة فيما يتعلق بالأساسيات، وعلى التحديد ما هو جوهري وما هو عرضي في فهم الواقع وتحديد آفاق المستقبل.

العدد 1104 - 24/4/2024