رفع الأجور وإرساء الديمقراطية في العمل
ستيف كولتر:
ترجمة: لمياء الساحلي
يشهد الاقتصاد الأوربي منذ ست سنوات توسّعاً ويتزايد عدد الناس الذين يعثرون على وظائف. وبالفعل بدأت الأزمة تختفي شيئاً فشيئاً من ذاكرة الأوربيين وبدأ التقشّف يتراجع. ولكن لماذا لا يشعر الأوربيون أنهم أكثر سعادة؟ ولماذا انخفضت الثقة في الاتحاد الأوربي عمّا كانت عليه عام 2008، في جميع دوله، باستثناء ثلاث شملها مسح لـ(Eurobarometer).
تُعتبر أوربا من نواح عدّة هدفاً سهلاً للساخطين. فقد ازدادت الضائقة الاجتماعية الناجمة عن الأزمة الاقتصادية بسبب إجراءات التقشّف القاسية التي اتخذت بعد الأزمة بناءً على اعتقاد خاطئ بأن الفائض في الميزانية يولّد النموّ. وعلى الرغم من أن العقلية بدأت تتغيّر أخيراً، إلّا أن الأوربيين لا يزالون يشعرون بتأثيرات تخفيض قيمة العملات وسوء إدارة الاقتصاد.
العمّال لا يحصلون على حصّتهم
في التقرير الأخير لمعهد الاتحاد التجاري الأوربي حول حالة (أوربا الاجتماعية) بعنوان (وضع معايير أوربا العاملة 2019)، يحدّد الباحثون مصادر رئيسية لعدم الرضا ويقترحون بعض الحلول. ويتبيّن أنه من المظالم الرئيسية عدم حصول الأوربيين على زيادة في الأجور منذ زمن طويل. فمتوسّط النم وفي الأجور الحقيقية بين 2009 و2019 كان أدنى بأكثر من نقطة مئوية عن فترة ما قبل الأزمة.
كان من المفترض أن تؤدّي العضوية في النادي الأوربي إلى تعزيز التقارب في الأجور، ولكن على العكس، فإن التباين في الأجور بين الدول الأعضاء صارخ. ففي عشرة بلدان أوربية، لا تزال الأجور الحقيقية عند مستوى عام 2009 أ وحتى دونه. وتشمل هذه المجموعة المملكة المتّحدة وبلجيكا ودول جنوب وشرق أوربا الأكثر تضرّراً من الأزمة ومن المحاولات الخرقاء لإدارتها.
قد يقبل العمّال أن تنخفض أجورهم في الأوقات العصيبة، ولكن ما يزعجهم ه وفصل أجورهم عن الإنتاجية في السنوات الأخيرة حين كان يفترض أن الأمور آخذة في التحسّن. فالنم والاقتصادي واقع، لكن العمّال لا يحصلون على حصّة فيه، حتى أن حصّة الأجور في العديد من الدول تواصل التراجع. ولا شكّ أن الأسباب الأساسية وراء هذا الاتجاه ه وتحرير أسواق رأس المال وإلغاء الضوابط التنظيمية على الأسواق وإلغاء مركزية التفاوض الجماعي.
تساهم كل هذه العوامل في تغيير ميزان القوة لصالح رأس المال، وفيما نراه اليوم في أجزاء عديدة من أوربا أي النم والمنفصل عن الأجور. وقد تصرّ المفوضية الأوربية على أن إلغاء التفاوض بشكل جماعي لم يساهم في ركود الأجور – حتى ل وكانت تطالب، من دون جدوى، بنم وأقوى في الأجور – إلّا أن أبحاثاً أخرى تشير إلى عكس ذلك.
التفاوض الجماعي
هناك حاجة إلى اتخاذ إجراءات لتعزيز التفاوض الجماعي الذي يشهد تراجعاً في معظم البلدان الأوربية. يمكن للمفوضية أن تبدأ بإصدار توصيات خاصة بكل بلد تتضمّن تعزيز التفاوض مع أكثر من صاحب عمل، وذلك على سبيل المثال عبر تسهيل توسيع رقعة الاتفاقيات الجماعية. ولكن على الرغم من أن التوصيات الخاصة بكل بلد والصادرة في فترة 2018-2019 أتاحت للمفوضية الفرصة لدعم (الأجور العادلة) و(الحدّ الأدنى المناسب للأجور) والتفاوض الجماعي الذي فرضه (الدعم الأوربي للحقوق الاجتماعية)، إلّا أنها لم تفعل ذلك.
بطبيعة الحال، ستكون النقابات نفسها شريكة تفاوض أقوى لأصحاب العمل إذا كان بإمكانها قلب واقع الانخفاض في عضويتها. ولكنها ستكون أفضل حالاً مع المزيد من المساعدة. ففرص الحوار الاجتماعي، التي تشكّل جزءاً من قوة النقابات، يمكن أن تتعزّز من خلال تنفيذ الاتفاقات الإطارية الأوربية بين الشركاء الاجتماعيين بناءً على قانون الاتحاد الأوربي، لإعطائها المزيد من النفوذ.
وإضافة إلى رفع الأجور المطلوب منذ زمن بعيد، فإن تعزيز الديمقراطية في العمل قد يعيد إرساء ثقة الناس في المستقبل. ومن غير المرجّح أن يعترض أصحاب العمل الذين يتمتعون بالمسؤولية لأن الديمقراطية في مكان العمل تعزّز أيضاً استدامة الشركة. فالعمّال الذين يملكون صوتاً في العمل هم عمّال يشعرون بأن لديهم مصلحة في نجاح الشركة، وبالتالي هم أكثر سعادة وإنتاجية.
تُعتبر التغييرات في طبيعة العمل نفسه مصدراً إضافياً لانعدام الأمن. ويشير تقرير (وضع المعايير) إلى أنه في الوقت الذي تتزايد فيه جودة رأس المال البشري، تنخفض جودة الوظائف المعروضة. وتناسب أشكال العمل التي لا تلتزم المعايير، بعض العمّال الذين يبحثون عن قدر أكبر من المرونة، ولكن بالنسبة إلى الآخرين، فإنها تعني قدراً أكبر من الهشاشة. وتنطوي اقتصادات (الوظائف المستقلّة) و(الوظائف الإلكترونية) التي بدأت في تحويل أسواق العمل في قطاعات الخدمات على مخاطر متعدّدة للعمّال، بما في ذلك احتمال متزايد للفقر وتعميق التفاوتات الاجتماعية. لذلك يجب أن يقود ارتفاع نسبة الوظائف بدوام جزئي والوظائف المؤقتة في سوق العمل إلى دق ناقوس الخطر بشأن هشاشة سوق العمل.
خوف على المستقبل
من الواضح أن الكثير من الأوربيين يشعرون أن المكاسب الاقتصادية التي تحقّقت خلال السنوات القليلة الماضية تجاوزتهم، لذلك فهم قلقون بشأن مستقبلهم. وأحد العوارض ارتفاع الدعم للسياسيين الشعبويين واليمين المتطرّف. ويبد وأن واحداً من كل خمسة ناخبين يميلون إلى الاعتقاد بأن المهاجرين والمستفيدين من الرعاية الاجتماعية هم مصدر مشاكلهم، وليس السياسات الاقتصادية الجائرة وقصيرة النظر.
لذلك يحتاج السياسيون إلى تزويد المواطنين بأكثر من بيانات اقتصادية جافة لتبرير ما يفعلونه، فالوظائف الجيّدة ورفع الأجور والأنظمة الاجتماعية الفعّالة، هي التي تتيح للناس القدرة على عيش الحياة التي يريدون. وغياب هذا العناصر يقود الناخبين إلى اللجوء إلى من لديهم إجابات مبسّطة للمشاكل المعقّدة.
يجب أن يتم الاحتفال أكثر بالإنجازات التي حقّقها الاتحاد الأوربي – إحلال السلام والازدهار في قارة دمّرتها الشعبوية والحرب ذات يوم – ولكن حتى هذا غير كافٍ. فعلى صنّاع السياسات التخلّي عن الأفكار الاقتصادية السيّئة القديمة وتسريع الاتجاهات الحالية نح وإعادة تنظيم الأسواق وتنسيق أفضل للسياسات. عندئذٍ فقط سيكونون في وضع يسمح لهم بإسقاط حجج زائفة ولكن مغرية مفادها أن (أوربا) تعني الامتياز الراسخ للنخب.
ستيف كولتر: رئيس قسم التواصل في معهد الاتحاد التجاري الأوربي، وزميل زائر في المعهد الأوربي في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
* ترجمة: لمياء الساحلي
(الأخبار)