حيوية أي مجتمع تقاس بنسبة اللانمطيين
سامر منصور:
في المجتمعات التي يسودها الطابع الوصائي الإقصائي تهيمن على أفرادها النمطية، وتُمارس الأحزاب العربية الكبرى التنميط وبثّ الخطاب التلقيني النمطي، على غرار الخطاب الديني التلقيني الذي كان سائداً في العصور الوسطى ولكن عوضاً عن الربّ، الوطن هو المُققدّس، وعوضاً عن العباءة ربطة عنق وبدلة، ويبقى جوهر الخطاب هو ذاته من حيث الأساليب والغايات، والمُراد هو قطيع اتباعي.
الخوف يُعشّش في المجتمعات المتخلفة التي تقحم أنفها في معظم شؤون الفرد، لأن هناك من يريد السيطرة عليه وتوجيهه وتسخيره بشكل أو بآخر، سواء الخوف من السجن والتعذيب أو الخوف من نظرة المجتمع الذي يزدري من يُغرّد خارج أسرابه المؤدلجة، كل هذا يدفع الفرد الذي يتلقى رسائل منذ صغره نحو حصر اختياراته بالأنماط السائدة التي تُعدُّ الأكثر نجاحاً، والنجاح في المجتمعات التي أفلست ثقافياً ومعرفياً يُقاس بما يستطيع الفرد أن يُحصّله من مال. وهكذا يتمُّ منذ الصغر ضرب آليات التفكير لدى الفرد فينحصر التحليل والتركيب والاستقراء والاستدلال …إلخ في منظور تفاضلي لا تكاملي، منحاز لمفاهيم (الشطارة والفهلوة) واغتنام الفرص على حساب القيم والمبادئ، فالمال مُكرّسٌ كقيمة عليا تُحدّد مقدار المكانة والقبول الاجتماعي للفرد!
الجيل الصاعد يسعى للتطابق مع المفاهيم السائدة للإنسان الناجح والمقبول، عوضاً عن السعي للتفرّد والتميّز بكامل آفاق هاتين الكلمتين. فنجد من حيث الشكل والمظهر اتباعاً لما يرتديه الفنانون وتقليداً لتسريحات شعرهم وحركاتهم لتحصيل القبول لدى الجنس الآخر. ومن حيث الجهد والعمل نجد اتباعاً لرغبة العائلة عبر الخوض في المجالات التي تريدها لتحقيق القبول الاجتماعي. وهكذا نجد طلاباً متفوقين لكنهم يمزقون الكتب على أبواب القاعات الامتحانية بمجرد أن ينهوا الامتحان! وهذا مثال فقط. ففي مجتمعاتنا المتخلفة التي لا يُتاح للكثير منّا تكوين وعي سويّ فيها، المطلوب منك أن تكون ما فشل والدك في تحقيقه في بلاد يحتاج الانسان فيها أعماراً وحيوات ليصل الى ما يصل اليه الآخرون في بلاد أخرى بحياة واحدة! يقهرني بعمق كمُّ الناس المتشابهين مع تغيّر الوجوه والأسماء والأصوات لكن الذهنية واحدة!
فكم من شاب يدخن من النرجيلة ويلعب الورق على شرفة منزل أسرته ويتحدث عن التطور والإنجاز، ثم تراه بعد عقود حقق ما يصبو إليه ضمن فهمه للتطور والإنجاز، فتراه فرحاً لأنه امتلك منزله الخاص وسيارة تُمكّنه من أن يذهب إلى أيّ مكان يريده كي يدخن النرجيلة!
فالمال غاية وليس وسيلة في مجتمعاتنا منذ قرون، ولهذا سعت قوى الفساد وحيتان المال في دول كسورية لإطالة عمر الأزمة والحرب، كي تتمكّن من جعل الناس يُخرِجون مُدّخراتهم من ذهب ومال ويحوّلونها إلى قيمة متداولة.
إن شخصية (معتز) في مسلسل باب الحارة أو (الحاج متولي) المُحاط بزوجاته الجميلات، واحدة تدلك كتفيه والأخرى تقشر له الفاكهة والثالثة ترقص أمامه والرابعة تُغيّر فحم النرجيلة في دار واسعة، إن هذا النمط هو غاية جُلَّ الشباب العربي الذي تمّ تجهيله وتسطيح تفكيره على يد قوى الاستعمار ومن يواليها من أصحاب وأرباب الشأن السياسي والاجتماعي والديني، ولم يحظَ إلى اليوم بقيادات عربية قادرة على انتشاله من أنماط الحياة الأكثر تسطيحاً وبدائية. وأستغرب فيض المقالات التي تُحذّر من العولمة بينما نحن أساساً لم نخرج من (الحيونة) حيث نرى الحياة طعاماً وفيرا وأنثى جميلة! نحن كعرب نولد وسط مسرح من الدمى المحشوّة بالإيديولوجيا والخوف من الفقر، وبالتالي شخصيتنا في النزر اليسير منها تتكوّن على أُسس ننشد من خلالها التماهي والقبول كي نحظى بدور في هذا المسرح! وإذا أردنا تخصيص الحديث وتكلمنا عن سورية نجد كلاً من وزارتي التربية والتعليم العالي تضطلع بدور هام يهدف للنهوض بالشخصية الإنسانية السورية وإعادة الاعتبار لها خاصة، في ظلّ المناهج التعليمية الحديثة التي تعاقبت في العقدين الأخيرين من الزمن. بينما نجد كلاً من وزارتي الإعلام والثقافة تُتيحان الحيّز الأكبر للخطاب النمطي، وتُكرّس وجود شخصيات نمطية متأخرة في خطابها وذهنيتها عن زماننا، يطغى على أسلوبها التلقين وتغييب المعطيات والاجترار للأفكار ذاتها، فتراهم كخطباء العصور الوسطى غير أنهم يرتدون بدلات وربطات عنق من المتسلقين الذين يوظفون مصطلحات حديثة نسبياً وضِعت لأغراض محددة في علمي السوسيولوجي والسيكولوجي، للظهور كأشخاص يمارسون دوراً توعوياً. لكن، لا يمكننا أن نأخذ هذه المسائل بسوء نيّة بنسبة كبيرة، ذلك كون الواسطة تلعب دورها في وصول مُعدّي البرامج ومسؤولين ليسوا ضليعين في الانثربويولوجي والسوسيولوجي، وفهمهم للتاريخ مُسطّح. وما دام دخل أصحاب الفكر والقامات العلمية يقلُّ عن دخل عاهرة قبيحة، وما لم تُبذَل جهود جادة لوقف هجرة العقول، وما لم يتحقق التمحيص في مؤلفات وكتب من يتمُّ تقديمهم بشكل متكرر على شاشات التلفزة والمنابر، وما لم توضع وتُطبَّق معايير لاصطفاء الأعمق، فالمتلقي نافر أصلاً ممّا تقدمه هاتان الوزارتان، بدليل قلّة الحضور في مراكز وزارة الثقافة، ويؤكّد هذا استطلاع نشرته صحيفة (الثورة) في مطلع هذا العام حول أعداد متابعي الإعلام الرسمي.
كل ما سبق يلعب دوراً جوهرياً في الارتقاء بالإنسان السوري وتجنيبه مستقبلاً السقوط ضحية التآمر الغربي أو الفكر المتطرف أو حتى الانحدار إلى الحالة القطيعية.