أجنحة غير قابلة للتقليم

غزل حسين المصطفى:

طولي دائماً كان يفوق كلَّ أقراني، فالموضوع يعود للوراثة وليس من اختياري، وعلى الرغم من ذلك بقيت أسمع التعليقات التي كانت تجرحني كطفلة يُخدش فيها ثقتها بأنوثتها. الفكرة أنني لم أكن بعد قد قرأت نفسي ولا تعلمت كيف أكون أنا، معالم شخصيتي كانت قيد التكوين، ولكن كل المحيط كان يحاول المساهمة في تكوينها وتصحيح مسار خاطئ أسلكه عن طريقي أو حتى طريق غيري، فالفكرة في المبدأ المعتمد.

أنا أنثى، ولكن لم يُغرِني اللون الوردي قطعاً، ذلك أن الأزرق هو هوسي، دميتي لم تكن إلاّ دمية ما حملتها في يوم على أنها ابنتي أو ممثلة تُشاركني أداء دور الأمومة.

هذه التفاصيل بشكل سريع استعرضتها لأنتقل إلى الشيء الأعمق، برأيي، ألا وهو ذاتنا، أحلامنا، الامتداد الجغرافي لوجودنا على خارطة الحياة.

كيف لنا أن نكون نُسخاً مُكررة ونحن اليوم في شكل العين وتفاصيل وجوهنا، مهما تشابهنا، فلن نكون نسخة واحدة، فما بالك بطبع ورغبة وشخصية؟

كانت صديقتي تعشق تصميم الأزياء، تنكبُّ على الملابس لتُنعش شغفها في التفاصيل المُكوّنة للقطع، ولكنها لم تستطع في يوم أن تُظهر ذلك أمام عائلتها، فإن علم أحدهم فستُحرم من كل شيء له علاقة بحبها ذاك، إذ يجب عليها أن تلتزم حدودها كأنثى تعيش في مجتمع شرقي سمح لها القدر أن تكون لعائلة تسمح بالتعليم، فتلتزم بكل أدب خط السير المعيشي الذي رُسم لها، ولا مجال لأيّ تغيير.

كم مرة رأيتها تنتظر فستاناً ما حتى تنتهى خدمته في خزانة والدتها، فتسهر لياليَ عدة تُعيد وتعيد تشكيل هذه القطعة وتصنع منها مجموعة نماذج كنت أراها رائعة، لكن كل هذا كان بالسر!

كيف تُصمّم الأزياء؟ لمن ستترك منصّة العلم؟ وبحسب أمها: ماذا سيقول عنها المجتمع؟ (بنت فلان خياطة!) تاريخ عائلتك لا يسمح، كانت تقول جوابها ذلك وتمضي لتمارس صورتها النمطية بوصفها زوجة تاجر لا ينقصها شيء، هي التي سرقت وردة جورية حملتها يوما لصديقتي في ميلادها، رأيت الشوق لهذه التفاصيل في عينيها، كانت تسترق السمع للأغاني معنا، لكن مكانتها الاجتماعية لا تسمح بذلك!

كم هي قبيحة هذه التفاصيل التي أسردها، أشعر بضيق النفَس صدقاً، وكأن عُنقي مُقيّد.

خُلقنا أحراراً، فكيف نعيش ضمن إطار صورة مُسبقة الصنع نتوارثها جيلاً بعد جيل، نقمع كل رغبات الحياة فينا من أجل أن نبقى ضمن ذلك الإطار، حتى في لون الملابس وشكلها محكومون؟!

لا أدري كيف تُسمى تلك التفاصيل حياة.

أليس من حق كل شخص منّا أن يمتطي صهوة رغبته دون كبحٍ أو قيود؟

أليس من حقنا أن نُمارس طقوس التفاصيل التي نحب كما نرغب من غير أن نُفكّر فيما إن كان ذلك مباحاً أم لا؟ هل نحن مُلزمون بأن نستخدم الشوكة والسكين في تناول الطعام لنكون ضمن تصنيف معين ولا تستجرّنا الملعقة وخبز أفران الدولة لطبقات اجتماعية أدنى؟

حتى أن الكتاب الأغلى هو الأهم من ذلك الذي يُباع بثمن زهيد فقط لأنه الأغلى!

وصور(السيلفي) التي نملأ بها صفحاتنا لنُباهي بما نفعل ونُنافس المحيط، وقد نكون قد زخرفنا الفعل وخسرنا المال لأجل هذه الصورة وما استطعنا للسعادة الحقيقية سبيلاً، مجرد (بريستيج) لا أكثر.

نعم، نعم، أنا لا أبالغ، اليوم نمطية الحياة التي تحيط بنا تفرض مجموعة معطيات مُغبرّة أكل الزمان عليها وشرب ولامجال للحرية الشخصية تقريباً.

هذا الحال ليس لدى الكل، لكنّه موجود بطريقة أو بأخرى وبأشكال تُساير أنماطهم وبيئاتهم. وحدهم من أطلقوا العنان للحياة غير آبهين بتقليم أجنحتهم من أجل (ما بصير، مو هيك العادات، عيب) هم من يتذوقون أقداح الحياة كما يجب، ربما.

العدد 1104 - 24/4/2024