إن لم نختلف فـلن نُشكِّل مجتمعاً

إيناس ونوس:

اعتاد مجتمعنا رسم صورةٍ نمطيةٍ للفرد المثالي الخالي من العيوب والمطيع والمتفوِّق والمحبوب والمرغوب من قبل جميع من يتعاملون معه، هذا الاعتياد كان مُمنهجاً ومدروساً، لأنه قبل أن يكون حالةً اجتماعيةً مُعمّمةً، فإنه ناتج منهاجٍ مدرسيٍّ مقصودٍ، لنكون جميعنا شخصاً واحداً، وقد نشأنا عليه منذ نعومة أظفارنا. فالأمهات موجودات في المطبخ والبيت، والآباء في العمل، والأولاد في المدرسة. من منّا لا يتذكّر باسم ورباب، وبابا وماما، في دروس القراءة في المنهاج القديم؟

هذه الصورة ذاتها هي التي جعلت من الطَّبيب نموذجاً للإنسان النَّاجح والمتميّز، بينما صوَّرت عامل النظافة إنساناً أميّاً. كما جعلت من المواهب الفردية أمراً مثيراً للاستهجان والاستغراب والرَّفض القاطع أحياناً (موسيقا، رقص، رسم.. الخ) من قبل الأهل والمُدرّسين، وللأسف فإن السِّياسات التَّعليمية لا تزال تعتمد الأسلوب ذاته من خلال تحديد الفروع الجامعية المقترنة بالمفاضلة العامة والمرتبطة بمستوى التَّحصيل العلمي ودرجات الامتحان النهائي فقط في الثَّانوية العامة، الأمر الذي انعكس وسيبقى ينعكس فيما بعد على المجتمع برمته، فكم من أصحاب شهاداتٍ واختصاصاتٍ عليا حصلوا عليها وهم غير جديرين بها والعكس بالعكس، وكم خسرنا شبّاناً وشّاباتٍ لأنهم لم يتمكنوا من الوقوف بوجه أهلهم أو مجتمعهم فيما يخص دراستهم!

ومع الأيام تحوَّل التَّنميط القائم إلى ثقافةٍ مجتمعيةٍ تُحدِّد الإنسان الجيد من السَّيئ وفقاً لتلك المعايير، فالأم التي تعطي لنفسها بعض وقتها كحقٍّ طبيعيٍّ لها توصف بالأنانية، بينما يكون الأب الذي يُفضّل رغبات أبنائه على رغباته هو الأب الجيد، والشاب/ة الراغب/ة والطامح/ة للاستقلال أو الدراسة أو العمل أو العيش وفقاً لقناعاته/ا يُعتبر ابناً عاقاً، ما أدى بالضَّرورة إلى أن يقوم المجتمع ككل على الكذب، المباشر أو غير المباشر، من أجل تفادي الانتقادات التي ستصيبه من كل حدبٍ وصوب، من أصحاب الشَّأن أم من غيرهم ممّن لا علاقة لهم البتة، تجلَّى ذلك في العديد من الأمثال الشَّعبية الدَّارجة: (كُلْ لنفسك والبس لمحيطك، اللي مو خايف من الناس مو من الناس …إلخ). ما أدى في المراحل اللاحقة إلى انتهاج الجميع دون استثناء أفكاراً مثل (افعل ما تريده في السِّر وراعي المجتمع في العلن)، علماً بأن كل ما يفعله الفرد بات مكشوفاً بحكم انتشار هذه الثقافة الجديدة، إلاّ أن الرَّغبة في الكذب واستمرائه والظُّهور بالمظهر المثالي لا تزال مسيطرةً على الجميع، حتى بات الأمر يدعو للاشمئزاز في كثيرٍ من الأحيان.

غير أن بعض النَّماذج التي قاومت ما بات يدعى عرفاً اجتماعياً، وأثبتت ذاتها بنجاحها وتميّزها، عملت على خلخلة هذه النَّظرة المجتمعية للصورة النَّمطية، وبدأت تساهم في ضرورة تغيير العديد من المفاهيم، فبعد أن كان التمثيل أو العمل في المجالات الفنية كمثالٍ أمراً معيباً ومخجلاً، بات أمراً لافتاً للانتباه ومثار حسدٍ أو غيرةٍ ربما تكون بنّاءةً، ما أدَّى بدوره لانتشار القناعة بأن تلك الصُّورة النَّمطية غير واقعيةٍ أبداً، ولا ضير من الاعتراف بالفوارق الطَّبيعية بين الأفراد، لأن المجتمع يضم كل النماذج، بل لا بد من ذلك إن أردنا أن يكون مجتمعنا معافى وصحيح البنية، ففي البيت الواحد الذي يعتمد أسلوباً واحداً للتربية نجد فوارق واختلافات ما أنزل الله بها من سلطان بين أفراده، فما بالنا بمجتمعٍ كاملٍ متكاملٍ يضمُّ ثقافاتٍ متنوعةٍ وبيئاتٍ مختلفة؟

إن الحل ينبع من اعتماد سياسات التَّعليم بالدَّرجة الأولى لهذه الفوارق، والابتعاد نهائياً عن ذاك التَّنميط والسَّعي لجعل كل أفراد المجتمع شكلاً واحداً، بالتوازي مع التربية الأسرية التي هي المنطلق الأول لكل شخص، وضرورة قبول الأهل لاختلاف أبنائهم عنهم وكل منهم عن الآخر، لتصبح بالتدريج ثقافةً مجتمعيةً عامة. فمن لا يكون هو نفسه لن يكون قادراً على العطاء والتفاعل مع الآخر، ولن يخرج مجتمعنا من بوتقة الكذب والرياء.

العدد 1102 - 03/4/2024