تفاوت الثروات.. احـذروا الفقـر!

يونس صالح:

اهتمت الأدبيات الماركسية بقضية توزيع الثروة وتوزيع الدخل، والفوارق الطبقية التي تنشأ عن ذلك. وكان التحليل الماركسي يعزو هذه الفوارق لما أسماه الصراع الطبقي، وكان الماركسيون ينادون بإنهاء المجتمع الطبقي والفوارق الطبقية. إنها حكاية الثراء والفقر من منظور ماركسي.

بيد أن هذه المسألة برزت الآن، ولكن من أوساط غير ماركسية أيضاً. ففي تقرير للأمم المتحدة حمل عنوان (التنمية البشرية) ينص على أنه في عام 1960 كان أغنى 20% من سكان العالم يحوزون على 70% من دخل العالم عام ،1960 أما في عام 2015 فأصبحوا يحوزون على أكثر من 85% من هذا الدخل.

وفي المقابل، ضم أدنى السلم 20% آخرين، وهم الأفقر أو الأدنى دخلاً، كان نصيبهم في عالم المقارنة الأول 3,2% من الدخل، وأصبح عام 2015 أقل من 4,1%.

في عام 1960 كان التفاوت كبيراً، لكنه بعد أكثر من 50 عاماً من التقدم الاقتصادي والاجتماعي في العالم، أصبح أشد اتساعاً وأشد خطورة، فبينما كان الخُمس الثريّ يحوز ما يعادل ثلاثين ضعفاً لما يحوزه الخمس الأكثر فقراً، أصبحت هذه النسبة نحو 70 ضعفاً بالتمام والكمال، وبكل ما يعنيه ذلك من أسباب ونتائج.

لماذا يزداد الأغنياء استحواذاً على ثروات العالم؟ ولماذا يحدث المزيد من تهميش الهامشيين؟ وما هي النتائج المترتبة على ذلك؟ ولماذا تهتم المنظمات الدولية التي تعنى بشؤون التنمية بقضية توزيع الدخل والفوارق الطبقية؟

أظن أننا يمكن أن نستنتج العديد من الأسباب التي أدت إلى هذه الظاهرة؟ فقد سبق نمو الأفراد وزيادة عدد وثروة الأغنياء نموّ نصيب الدول الصناعية المتقدمة من الناتج المحلي العالمي. كانت هذه السنوات (1960-2015) هي سنوات الاستقلال ومحاولة البناء في العالم النامي، وجرى تقسيم العمل الدولي بين الشمال والجنوب لصالح الطرف الأول، وأصبحت تنمية العالم النامي، وتسليحه، هي السوق الواسعة التي يرتع فيها العالم الصناعي الرأسمالي الذي احتكر العلم والمعرفة والتكنولوجيا، كما احتكر الرأسمال، وبالاثنين احتكر الأسواق.

خلال هذه الفترة عانت الدول النامية من مبادرة غير عادلة، فالشمال الأكثر قوة يعمل، باطراد، على زيادة أثمان ما يقدم من سلع مصنوعة، بينما يعمل وباطراد أيضاً على عكس ذلك فيما يتعلق بالخامات والسلع الأولية التي ينتجها العالم النامي. والأمثلة عن ذلك كثيرة. كيف كان التبادل دوماً لحساب الطرف الأقوى، ذلك أن ثمن المعرفة، أو ثمن التكنولوجيا، قد أصبح أغلى من ثمن أي مادة طبيعية، إذا قسنا الاثنين بعدد ساعات العمل البشرية اللازمة للإنتاج؟

كسب الشمال الجولة، وتوزعت مكاسبه على سكانه بالضرورة، فازدادت الشركات العملاقة متعددة الجنسية، وزادت قوتها، كما زادت الاحتكارات وزادت فرص الإنتاج والتصدير، لأن الوحدات الكبيرة_ مالية أو صناعية أو تجارية أو زراعية_ تعني ثروة كبيرة، فإنه قد أصبح منطقياً أن يحدث ذلك التركيز في الثروة، وذلك التفاوت في الدخل، وأن يكون معظم العشرين بالمئة الأكثر ثراء من أبناء الشمال، بينما يكون العشرون بالمئة الأفقر، في معظمهم، من أبناء الجنوب.

حدثت الظاهرة، ومازالت مستمرة، ويمكن تناولها من زوايا متعددة. فمن زاوية العدل، نحن أمام وضع أشد إجحافاً وظلماً من ذي قبل، فالأكثر فقراً أقل عمراً وصحة وتعليماً وفرصاً في الحياة. ومن زاوية التنمية، فإن الفقر يعوق التنمية، فهو لا يتيح الفرصة للادخار والتراكم الرأسمالي الذي يولد الاستثمار، وهو يخلق تراكماً من نوع آخر، حياة غير إنسانية لا تساعد البشر على أن يقدموا خير ما عندهم.

وعلى الجانب الآخر، فإن الثراء المفرط يشجع على الاستهلاك المفرط، ويخلق أنماطاً لا تحاج إليها المجتمعات، والوضعان معاً: وضع الفقراء ووضع الأثرياء، يخلقان ذلك التوتر الذي ينتقل من توتر اجتماعي محدود إلى توتر دولي، وإلى ثورات اجتماعية.

إن أكثر من 40 مليون شخص قد هاجروا في العقود الخمسين الأخيرة من الجنوب إلى الشمال، نتيجة لمشاكل الفقراء، وهناك عدد كبير أيضاً هاجر بصورة غير شرعية، وهناك الملايين من المشردين في البلدان النامية …إلخ، وأسباب كل ذلك واضحة: انحطاط مستوى المعيشة، وضيق فرص العيش التي تخلقها سياسات مختلفة من بينها: الحواجز التجارية التي تضعها الدول المتقدمة أمام الدول النامية، فتخنق لديها فرص التصدير وفرص العمل، وبمنطق أنه (إذا لم تتجه فرص العمل نحو العمال، فليتجه العمال نحو فرص العمل)، بهذا المنطق يحدث ما يحدث من هجرة شرعية وغير شرعية، ولجوء مبرر وغير مبرر. إنها أزمة نقص في التنمية، وهو ما يستدعي سياسة جديدة أو نموذجاً جديداً للتنمية، وتضافراً دولياً ترتبط فيه المساعدات الدولية، على سبيل المثال، باستراتيجية الحد من الفقر وتهتم البرامج بالجوانب البشرية مثل التعليم والصحة وغيرها.

إن رفاهية الشمال مرتبطة بازدهار أسواق الجنوب، وأمن وسلام العالم هو جزء لا يتجزأ، ربما من هذا المنظور تدوي الآن الصيحات: (احذروا الفقر، واحذروا الظلم الاجتماعي، إنها قنابل موقوتة!). فلنقرأ الأرقام من جديد لنعرف أن الصيحة في موضعها.

العدد 1104 - 24/4/2024