العلمانية تكتمل بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية

هيثم الشعار:

قيل الكثير عن العلمانية سابقاً ويقال الكثير اليوم، فما هي العلمانية؟

ليست العلمانية مذهباً سياسياً أو إيديولوجياً، وليست للعلمانية وصفات جاهزة. فحيثما اتخذت العلمانية وسيلة للتخلص من أعباء التخلف والجهل والخرافة، والانتقال إلى وعي بالمجتمع وحركته أكثر تقدماً، كان لها شكل جديد وتطبيقات وفق كل حالة بعينها وكل زمان بعينه.

لكنها كانت تعني على الدوام فصل الدين عن الدولة. والعَلمانية التي نتحدث عنها – بفتح العين – وهي تعود إلى العالم الذي نعيش فيه، وليس إلى العلم.

لكن للعَلمانية في مجتمعاتنا خصوصية، فهي لم تطبق في مجتمع عربي أو إسلامي إلا ناقصة، أو مقتصرة على جوانب تفرزها الأوضاع الاجتماعية والتغيرات في موازين القوى السياسية والاجتماعية.

لقد ظهرت العلمانية على يد البرجوازية في سيرورة صراعها ضد الإقطاعية الملتحمة بالكنيسة في أوربا، ولأن التغير تم من التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الإقطاعية إلى الرأسمالية، فقد كانت العلمانية أحد مظاهر التشكيلة الجديدة المنتصرة.

أما في الاشتراكية المطبقة أو في أفكار الاشتراكية التي رسمتها الماركسية أو اللينينية أو الأفكار اليسارية الأخرى، فقد كانت العلمانية – سميت أم لم تسمّ – حاضرة بحضور الفكر الماركسي أو اليساري، إذ تنظر الماركسية بأشمل من ذلك بكثير، فتكون العلمانية بأنقى صورها في المجتمعات الاشتراكية.

لقد أكد رجال النهضة المتنورون العرب أهمية العلمانية، ولو لم يسمّها بعضهم، وناضل المناضلون من كل انتماءات المجتمع وتلويناته من أجل التحرر من الاحتلال، رافعين شعار: (الدين لله والوطن للجميع)، الذي كان شعار الثورة السورية الكبرى. لذلك فإن العلمانية ليست جديدة علينا، ولا غريبة عن حياتنا العملية، ولا عن اجتهادات بعض رجال الدين المتنورين عندما حاولوا الإجابة عن أسئلة النهضة والتقدم الذي طمحوا إليه عند المقارنة مع المجتمعات المتقدمة.

لكن الناس العاديين، الكادحين، لم يطرحوا أمامهم العلمانية كهدف، بل كانت العدالة الاجتماعية والخلاص من التدخلات الإمبريالية والصهيونية هي أهم ما رأوا أنه يخلصهم من الفقر والظلم والتدخل بشؤون مجتمعاتهم ودولهم.

وقد نشطت كثير من القوى الإسلامية السياسية في هذا الجو لتروج أن أي ثقافة (أخرى) آتية من الخارج غرباً أو شرقاً هي غزو ثقافي وتهدف لانتهاك (ديننا الحنيف) ومبادئه السامية.

ونالت هذه الأفكار رضاً من قوى أخرى غير دينية، بطابع قومي إسلامي أو قومي صرف.

وكان كل ذلك في مصلحة الرأسمالية المحلية التابعة للرأسمالية العالمية، أي كالعادة مصالح تختبئ برداء الدين، أو تستفيد من التأويل الرجعي له.

 

هل العلمانية ديمقراطية بالضرورة؟

تخبرنا التجارب التاريخية المتحققة أنه ورغم ارتباط المفهومين والحاجتين لأي مجتمع عصري متطور أو يريد التطور، بأن ذلك غير مرتبط بالضرورة بوجودهما معاً، لكن بالنتيجة تكون العلمانية ناقصة إن لم تكن في إطار نظام ديمقراطي، وتكون الديمقراطية ناقصة إن لم تكن في إطار علماني.

بالنتيجة ليست العلمانية المتحققة ديمقراطية بالضرورة، فهما مفهومان متمايزان عند الممارسة الفعلية، لكن العلمانية الحقة تؤدي للديمقراطية، والديمقراطية الحقة تؤدي للعلمانية، وبالتعمق في نتائج كل منهما وأسلوب تطبيقهما في مجتمع العدالة الاجتماعية تصبحان كلاً واحداً.

 

العلمانية في سورية إحدى ضرورات حل الأزمة وعدم تكرارها

إن موازين القوى الاجتماعية في سورية، الاجتماعية والاقتصادية وحواملها السياسية والاجتماعية، وفق الصراع الهادئ والمنضبط حالياً، بتأثير عوامل سياسية داخلية وخارجية متداخلة، سيؤدي مع الوقت إلى حسم الصيغة وتحديد النمط الذي ستتخذه سورية، دستوراً وقوانين ومؤسسات، ومن ضمنها حول مسألة العلمانية، وما يتبع كل ذلك من تغيرات جوهرية وضرورات سيفرضها هذا النمط.

فإعادة الإعمار بمشاركة الجميع تَفترض تعددية اقتصادية يُفترَض أن تؤدي إلى تعددية سياسية، بتعدد الطبقات والشرائح الاجتماعية، والقوى والتيارات السياسية المعبرة عن مصالحها، بحيث يكون الصراع على حصص الثروة الوطنية ذا طبيعة طبقية، وليس على أساس مرجعيات ما تحت وطنية، إثنية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، ويُفترَض أن يتم هذا بتنظيم من دستور الدولة الراعية لمواطنيها الأضعف.

وتجربتنا خلال القرن الماضي وخلال سنوات الأزمة المنصرمة، تجعلنا نقول إن العلمانية ضرورة وطنية ونهضوية للمجتمع. فمجتمعنا متعدد الثقافات المذهبية والعرقية بحاجة خاصة إلى العلمانية، ولا طريق لضمان علاقات وطنية سليمة بين هذه الثقافات سوى العلمانية، لأنها تحمي التساوي والتكافؤ بين المواطنين، وتصون حقوق الجميع.

سورية مجتمعاً ودولة بوضعيتها الراهنة تحتاج العلمانية، من بين ما تحتاجه من سمات الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة.

 

كيف ينظر الحزب الشيوعي السوري الموحد إلى العلمانية في سورية اليوم؟

نحن حزب علماني، تقوم علمانيتنا على المنطلقات التالية:

1 – فصل الدين عن الدولة والسياسة، ولا يحمل هذا الفصل إساءة للأديان، بل إنه ينزه الدين عن ذرائعية السياسة وانغماسها في التفاصيل، ويحمي قيمه وأفكاره من التأثر بالمصالح الآنية التي تحدد توجهات السياسة.

2 – التساوي بين المواطنين في القانون، وفي مختلف مجالات الحياة، وعدم التمييز بينهم على أساس الانتماء الديني أو السياسي أو العرقي أو الجنسي أو الفكري.

3 – تأكيد مبدأ المواطنة والانتماء للوطن، وترك الانتماءات الأخرى، ومنها الانتماء الديني، لأصحابها الذين ينبغي أن يكونوا أحراراً في التعبير عن انتماءاتهم وفي ممارسة شعائرهم الدينية ونشاطهم في مجال الفكر والثقافة، في غطاء قانوني لا يحمل الأذى لأحد.

4 – فصل الدين عن التعليم، وذلك مراعاة للاختلاف بين طبيعتيهما. فالعلم نشاط عقلي يقوم على مبادئ الشك والتجربة ومقايسة الفكر بالواقع، أما الدين فهو ذو طبيعة إيمانية تسليمية لا مجال فيها للشك أو التجربة، وله مجالات تعليمه الخاصة.

وواضح من هذه المنطلقات أنه لا علاقة استبعاد أو تضاد بين العلمانية والإيمان الديني الشخصي. فالعلماني يمكن أن يكون مؤمناً، والمؤمن يمكن أن يكون علمانياً.

العلمانية كما يراها حزبنا تكمن في فصل الدين عن الدولة، فصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن التعليم، مع احترام حرية العقيدة وأداء الشعائر الدينية للجميع.

ففي الدولة العلمانية يعود الدين لأداء دوره الحقيقي في ضمانة المرجعيات الأخلاقية والقيمية الفردية. فلا تتدخل السياسة بالدين، ولا الدولة تفعل إلا في إطار الدستور والقانون، ولا يتدخل أحد داخلي أو خارجي باسم الدين، ليقدم طروحات سياسية متلفحاً برداء ديني أو طائفي.

فلا يبخس دور جميع الأديان في مواصلة الدعوة للخير والإحسان وحسن المعاملة مع الآخرين وفق منظومتها العقائدية، ولا يتم استخدام الدين أداة بيد الغريب قبل القريب ليتدخل في تطور مجتمعنا.

فالعلمانية توفر الحرية للمتدينين وغير المتدينين ليحيوا حياة لا يجبرهم فيها أحد على اتباع أو عدم اتباع ما يعتقدون، وليتفرغوا لمصالحهم وحياتهم العملية لا ناظم لها إلا الدستور والقانون.

 

هل الدستور السوري علماني؟

إذا نظرنا إلى الدستور السوري، فإنه يعكس، كما كل الدساتير والقوانين، طبيعة المجتمع السوري والسلطة السورية. فالمجتمع السوري طوال عقود طويلة يتقبل وجود كل الأديان على أرضه، وكل الطوائف والمذاهب، وفي حياة الناس اليومية لا يوجههم انتماؤهم الديني أو الطائفي أو المذهبي ليشتروا من هذا أو لا يبيعوا لذاك، لكن ما تزال في الأحوال الشخصية هيمنة واضحة للأديان والطوائف والمذاهب، أي كل الانتماءات ما قبل المدنية.

وهذه طبيعة المجتمع السوري توصيفاً، ولا أبرر إن قلت إن في المجتمعات الأخرى شيئاً من هذا (أقصد المجتمعات الأوربية ذات التاريخ في الأنظمة العلمانية) وإن بدرجات أقل.

وهنا ترك الدستور السوري هذا الشأن تابعاً للعرف الديني والعشائري والاجتماعي عموماً.

فالأجدر أن تُترك مسألة الأحوال الشخصية لاختيار المواطن الفرد في أن يلجأ أو لا يلجأ لانتمائه الديني والمذهبي، وأن يكون قانون الأحوال الشخصية مدنياً يشمل الجميع على قاعدة المواطنة المتساوية.

وهذا طبعاً شأن مدني بامتياز، لكنه مفتقد في الدستور السوري ذي الطبيعة المدنية.

كذلك فيما يخص العلمانية فإن الدستور ذو طابع علماني، والدولة ذات طابع علماني، والسلطة التي نشأت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ذات طابع علماني، لكن كل ذلك تبدى في الدستور ناقص العلمانية، بالمادة الثالثة (البندان 1 و2) من الدستور الحالي.

البند 1: دين رئيس الجمهورية الإسلام.

البند 2: الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع.

لذلك فإن الإجابة عن سؤال: هل الدستور السوري علماني؟ لا تكون بنعم أو لا.

لكن العلمانية فيه غير مكتملة، والمدنية غير مكتملة، والمساواة بين الرجال والنساء غير متحققة في مسألة منح الجنسية لأولاد المرأة السورية وغير ذلك من نقاط التمييز وخاصة في الأحوال الشخصية.

 

أيّ عَلمانية نريد؟

في سورية اليوم، أي في الوضعية المشخصة لسورية المجتمع والدولة اليوم، أقول إنها العلمانية التي لا تدع منفذاً لصراع ديني أو طائفي، وتحتاج أول ما تحتاج إلى إحساس الجميع بأنهم كاملو المواطنة، لا يميّزهم أصلهم العرقي أو الديني أو غير ذلك عن غيرهم.

أيضاً إنها العلمانية التي لا تنتقص من حقوق المتدينين من كل الأديان والطوائف والمـذاهب في أداء شعائرهم الدينية دون المس بحرية الآخرين.

إنها العلمانية اللازمة، الضرورية، دونما تطرّف، لفضّ الاشتباك العقائدي الكامن بين العقائد المختلفة، وتأثير ذلك على التقدم الاجتماعي.

إن هذا يتحقق بطريقة أفضل في ظل العدالة الاجتماعية التي توصل كل المواطنين إلى حقوقهم الدستورية كاملة في إطار المواطنة الكاملة.

فالدولة العلمانية، مهما امتلكت من قوة، ناعمة أو خشنة، فإنها غير معنية باعتماد دين أو مذهب كدين رسمي لها، ومحاولة فرضه على مواطنيها المتنوعين. لأنها، بذلك، تكون قد وقفت مع مجموعة من المواطنين ضد المجموعات الأخرى، وهمّشت هذه المجموعات، ونقضت مبدأً دستورياً يتمثل في المادة الثالثة والثلاثون وخاصة البندين 3 و4:

البند 3: المواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.

البند 4: تكفل الدولة مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين.

وبرأينا إن الدستور القائم على فصل الدين عن الدولة، وعن السياسة، وعن التعليم. وعلى إنصاف المرأة ومساواتها حقوقياً بالرجل، على أرضية المواطنة، وفصل السلطات التام، يعطي للعلمانية صورتها الواقعية اللازمة، لتنقذ حياتنا السياسية من بعض عيوبها، فإذا اكتملت بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية تمت.

وكل ذلك في إطار وطن مستقل، وجيش قوي قادر على الدفاع عن حدوده وأرضه واستقلاله ووحدته أرضاً وشعباً.

العدد 1104 - 24/4/2024