أصل الإنسان من الأرض لا من السماء

د. أحمد ديركي:

ينزع الإنسان إلى تصوير نفسه وكأنه مخلوق لا ينتمي إلى الأرض. فهو موجود عليها من خارجها. ولا تتوقف هذه النزعة الفوقية عند هذا الحد، بل يُلحق بها فوقيّته على كل كائنات الأرض.

كيف له ألّا يدّعي فوقيّته على كائناتها وهو من خارجها؟! لذا فهو يُصنِّف كل من لا ينتمي إلى عرقه بالكائنات والحيوانات الدونية، ويمركز نفسه على رأس هرم الوجود عالياً متعالياً في صومعته المتوهمة!

ما إن قال تشالز داروين (1809 – 1882) (إن أصل الإنسان قرد) حتى شنت عليه حرب داحس والغبراء منذ أن نطق بها، أو بالأحرى منذ كتبها، وما زالت الحرب قائمة وتنهال عليه النعوت، كلما ذُكر اسمه في أي نقاش سواء كان أكاديمياً أو خارجه!

ويبقى السؤال هل فعلاً ارتكب داروين (الخطيئة الأولى) التي لا تغتفر، بمقولته هذه، لـ(يُطرد) من الجنس البشري كما طُرد (آدم وحواء من الجنة)؟ هل فعلاً قال داروين إن أصل الإنسان قرد؟ وإن كان فعلاً هو صاحب هذه المقولة فهل أجاب عن سؤال مفاده: وما أصل القرد؟ أم أنه قال (أصل الإنسان قرد)، ووافته المنية قبل أن يكمل جملته كما يحدث في الأفلام العربية؟ وإن كان هو قائل هذه الجملة التي هزت علياء الجنس البشري، فعلى ماذا اعتمد في مقولته هذه؟ سؤال يلحق به سؤال آخر وجميعهم متصلون بسلسة طويلة من الأسئلة المترابطة منطقياً حول داروين ونظريته (النشوء والارتقاء_ evolution). أسئلة كثيرة يمكن طرحها، لكن مع الأسف معظم (الأكاديميين) و(المثقفين) ومعظم من يحملون ألقاباً مجتمعية (يفتخرون) بها لم يتنازل فرد منهم للقيام ببحث علمي جدي للإجابة عن هذه الأسئلة ومقاربة نظرية النشوء والارتقاء، بشكل علمي أيضاً.

كل من يناقش داروين، حالياً، في عالمنا العربي، يعتمد في نقاشه غلى كتاب داروين (أصل الأجناس_ On the Origin of Species)، الذي كتبه بعد 20 سنة من الصمت، وكان يسخر من احتمالية نشره بالقول: (نشره كمن يعترف بارتكاب جريمة قتل)، ونشر في عام 1859.

في عالمنا العربي يبدو أن هناك قلّة قرؤوا الكتاب بلغته الأم أو مترجماً، والترجمة وجودتها موضوع آخر، والأكثرية قرؤوا ما كتب عن الكتاب أو حول الكتاب. الدليل على هذا الاستنتاج الأولي ان معظم الأكاديميين، والمثقفين وكل المنتمين لهذه الفئات المجتمعية يقولون بأن داروين قال إن (أصل الإنسان قرد) وأصبحت مقولة متناقلة حتى ضمن العامة، وبخاصة أنها أتت من مصدر ثقة، أي من أشخاص على هذا المستوى التعليمي، وتحولت هذه المقولة من مقولة كاذبة إلى مقولة ثابتة وكأنها (حقيقية) إن فعلاً قالها داروين!

داروين لم يأت على ذكرها في كتابه في (أصل الاجناس)، وجل ما قاله حول أصل الإنسان في هذا الكتاب جملة واحدة فقط لا غير: (ستسطع الأنوار على أصل الإنسان وتاريخه)_ ص488، من النسخة الإنكليزية، أمر يؤكد أن مقولة (أصل الإنسان قرد) هي مقولة ملصقة بفكر داروين.

غريب أمر هؤلاء (الأكاديميين)، و(المثقفين)، و(طلابهم) وداعميهم الناشرين لمقولات لا أساس لها من الصحة، أو محرفين مقولات لتتوافق مع أهوائهم الفكرية! وهنا يمكن طرح السؤال التالي: لماذا يعمل كل هؤلاء على نشر، مقولات مشوهة لا صحة لها في مجتمع يتصف بالتدين ونسب أمية مرتفعة، ويعملون على تأكيدها، وإن كانوا (تعلمين) على شاكلة هولاء (الأكاديميين) و(المثقفين) وطلابهم وداعميهم؟! هل هم خائفون على عروشهم؟ أم هم أعجز من أن يقاربوا نظرية النشوء والارتقاء بشكل علمي؟ أم يخشون العلم والحقائق العلمية، وبخاصة أن نظرية النشوء والارتقاء ما زالت حتى تاريخه تثبت علميتها؟ ألهذه الأسباب يلجؤون إلى الكذب (علمياً) لدحض ما هو علمي بكونه لا يتوافق مع ثوابتهم الوهمية؟

من جهة أخرى ولتأكيد أن داروين لم يقل هذه الجملة المنسوبة اليه زوراً، استكمل داروين أبحاثه بعد ان نشر كتابه في أصل الأجناس، طبعاً وفقا لتطور العلوم في زمنه، وأصدر كتاباً آخر بعنوان (سلالة الإنسان_ the Descent of Man and Selection in Relation to Sex) عام 1871، وخصصه للجنس البشري، وهذا أمر واضح من العنوان.

على الرغم من أهمية هذا الكتاب لكونه يمثل استكمالاً لنظرية النشوء والارتقاء، إلا أن هناك ندرة نادرة في عالمنا العربي من قرأه وطرحة للنقاش العلمي او حتى تحدث عنه، على الرغم من كونه مخصصاً للبحث حول أصل البشر!

فماذا يقول داروين في كتابه هذا؟

لن نناقش كل الأفكار الواردة فيه ومنهجيته، فهذا عمل يتطلب بحثاً أكاديمياً علمياً، لا فقط أكاديمي كما هو في بلادنا، وقد يستغرق العمل عليه سنوات من العمل وصفحات وصفحات. لذا ما سنقوم به في هذه المقالة عرض لبعض يسير مما جاء في الكتاب، وليس ما يقال أو يكتب حول الكتاب أو عنه.

يقول داروين في مقدمة كتابه (سلالة الإنسان) جمعت العديد من الملاحظات حول أصل أو سلالة الانسان من دون أن أنوي نشرها… (صxxv) محدداً الهدف من النشر هو معرفة ما إذا كان أولاً: الإنسان مثله مثل بقية الأجناس يتحدر من صيغ سابقة لوجوده، وثانياً: معرفة سلوك هذا التطور، وثالثاً مقدار الاختلافات بين ما يُعرف بـ(العروق البشرية) (ص xxvi).

يذهب داروين في كتابه هذا إلى تفاصيل كثيرة ليقارب الأهداف التي حددها في مقدمته محاولاً أن يضع لكل مسألة فصلاً رئيسياً يتفرع لعناوين فرعية متعددة.

ينطلق داروين من أوجه الشبه البيولوجية ما بين الإنسان والحيوان على مستوى البنية الجسدية وصولاً إلى الحيوانات اللبونة، ويستنتج أن الإنسان مبني على النموذج العام، أو النمط عينه للحيوانات اللبونة (ص 4) وعملية التكاثر هي عينها عند كل الثديات (ص 5) والإنسان تطور من بويضة لا تختلف عن بويضات الحيوانات اللبونة الأخرى (ص 6).

ثم ينتقل إلى الحواس، (الحواس الخمس)، والإنسان يختلف عن كل الرئيسيات بكونه تقريباً عاري (ص 11). وبالنسبة لداروين على الرغم من أن الحيوانات تمتلك بعض المنطق إلا أن المنطق عند الإنسان يقف على رأس هرم القدرات العقلية (ص 25). كما أن الإنسان وحده هو القادر على التطور المستمر (ص 27).

ويصل إلى خاتمة مفادها أن الإنسان متحدر من صيغة حية أدنى (ص 436)، ويختم كتابه بالقول إن الإنسان ما زال يحمل في جسده ختماً يتعذر إزالته لأصله الأدنى (ص 450).

وبهذا أيها (الأكاديميون)، و(المثقفون)، و(طلابهم)، وداعموهم، لم يقل داروين إن أصل الإنسان قرد، بل عاد للبحث عن أصل الانسان وكيفية تطوره حتى وصل إلى شكله الحالي، وهذا ما أثبته العلم الحديث في عملية التطور من كائن وحيد الخلية إلى كائن متعدد الخلايا … وبقية النظرية معروفة ومثبتة علمياً لكل من يريد أن يطلع عليها وليس على تشوهاتها المقصودة!

لذا فإن مقولة (أصل الإنسان قرد) هي مقولة خاطئة تهدف إلى تشويه الوعي وتثبّت، بالوهم، الإنسان في عليائه المتوهمة على أنه من خارج هذا الكوكب وعائد إلى خارجه، ويأتي العلم ويدك هذا البرج الوهمي ويقول للمتوهمين إن أصل الإنسان من الأرض لا السماء!

العدد 1104 - 24/4/2024