العنفُ الأُسَريّ في المُجتمعات العربيّة
إسكندر نعمة:
على الرَّغم من التَّقدُّم الآجتماعيّ الذي شملَ بعضَ مرافق مجتمعاتنا العربيّة، وعلى الرّغم من تمكُّن المرأة في بعض مناحي الحياة العربيّة، من دخول مُعتركِ السّياسة والاجتماع والثّقافة، فإنّ واقعَ الوضعِ العام للمرأَة العربيّة ما يزالُ مأسويّاً، عدا بعض استثناءاتٍ محدودةٍ مُتفرِّقة، علماً بأنَّ هذا الواقعَ بوجهيهِ المُظلمِ والمغاير يتفاوتُ من قطر عربيٍّ إلى آخر، وكذلك يتباينُ بشكلٍ جليٍّ بين مناطق القطرِ العربيّ الواحد.
غنيٌّ عن البرهان أنّ الصّورةَ المظلمةَ لا تنطبقُ على كثيراتٍ ممَّن نجحنَ في كسر القيود البالية، وانطلقْنَ نحوَ عالَم الحرّيّة والاستقلاليّة وبناءِ الذّات. إلاّ أنّ هذه الفئَةَ من الناّحية العدديّة ما تزالُ قليلة، وتعجزُ عن أن تشكِّل ظاهرةً اجتماعيّة بارزة.فهي لا تعدو كونَها حالات فرديّة أو فئويّة ضيّقة، مُحاصرةً إمّا بأعاصير التّخلُّف الاجتماعيّ الذي شقَّت إهابَهُ، أو بسيف السُّلطةِ التَّقليديّة الرّجعيّة التي تحكم البلدَ الذي تنتمي إليه.
إنّ المرأةَ العربيّة في إطارها الأوسع ما تزال مسحوقةً بهيمنة العقليّة المُتحجِّرة، المتسلِّحةِ بالتّفسير المُشوَّه للدّين ومفهوم العائلة والأعراف الاجتماعيّة البالية.تظهرُ المشكلةُ واضحةً مُعمَّقةً في أرجاء الأَرياف والقرى العربيّة على امتداد الوطن العربيّ الكبير حيثُ تسيطرُ الأفكار الرّجعيّة البالية المُتوارثة، ولا تنتهي في المدن الكبرى حيثُ الجامعاتُ والمراكز الثّقافيّة إلاّ بنسبٍ محدودة، وتظلُّ هذه الفسُحاتُ الضّيّقة من حرّية المرأة مُؤطَّرةً بحواجزَ من الانغلاق والكذب والتّظاهُر المُنافق.
في مجتمعاتنا العربيّة، تبدو خيارات المرأة محدودةً جدّاً إذا ما قورِنت بالخيارات المتاحة للرّجل من حيثُ الحقوق والواجبات وفُرصُ الحياة.والأسبابُ في ذلك بيّنةٌ معروفة، وتعود في أُصولها إلى جذور المفاهيم المنحرفة السّائدة.
تولدُ الفتاة العربيّة في عائلة يحكمُها الأبُ الذي يحتلُّ دوماً موقعَ السيّد المُطلقِ الصّلاحيّات بلا منازع.يفرد ظلَّ سلطته على كلِّ أفراد العائلة.وتأتي من بعده سلطةُ الأخ الأكبر، ثمّ بقيّةُ الإخوة من الذّكور.ويبقى في قفص التّبعيّة بقيّةُ العائلة من الزّوجة والبنات مهما كثُروا.وتسيرُ الفتاة على خُطا الوالدة التي لا يعلو صوتُها أبداً في وجه مهندسي خارطة الحياة العائليّة.فترزحُ تحت وصاية الممنوعات وما أكثرَها. وتُتابعُ بخوف وقهرٍ تصرُّفاتِ أخيها الذي يُبحرُ في أعماق عوالمَ وحياة حُرمت منها، لأنّها تعلّمت من أُمّها أنّها عوالمُ خطيئةٍ وإثم وانحراف بالنّسبة لها كأُنثى. فتظلُّ ترسفُ في قيود قبوِها المظلم بين الممنوع والمحرَّم، وتُصابُ بالعمى الاجتماعيّ، بينما يظلُّ أخوها أو إخوتُها الذّكور يسرحون ويمرحون حتى الأعماق في ممارسة حياةٍ وتصرُّفاتٍ ليس فيها عليهم من خطأ أو مُحرَّم أو ممنوع.
منذُ أن تبدأَ طفولةُ الفتاة بالتَّفتُّح، تُلقَّنُ كلمةَ السّرِّ، سرِّ حياتها، وتُلقى عليها المواعظُ المُشدَّدة، بأنّ قيمتَها كأُنثى لا تكمنُ في تفكيرِها وثقافتِها وعواطفها وطموحها، بل كلُّ شئٍ من كيانها مُتعلّقٌ بحسن سلوكها ونقاء تصرُّفاتها. فإن حافظت على ما يسمّونه نقاءً وتخلَّت عن رأيها وطموحها ورغباتها وعواطفها، تستمرُّ معها الحياةُ مشروطةً بكلِّ القيود، وإلاّ فإنّ حياتَها تصبح مُهدَّدةً بكلّ الاحتمالات، وتكون الجريمةُ غسلاً لِعارٍ فعلتْه، وقتلُها شرفاً للقاتل ومحواً للخطيئة.
قد تنجو الفتاة بجلدها من دون أن تحظى باستقلاليّةٍ في الرّأي والحياة والمستقبل، لِيأتي الزّوج بعد ذلك فيستلمَ الهديّةَ اللّيّنة المطواعة.وتتابع الفتاة في حياتها الزّوجيّة رحلةَ الاستسلام والخنوع لسيف التقاليد الرّجعيّة. كان أبوها أو أخوها يُشهر سيفَ الإرهاب وأصبح الآن الزّوج. إذ تبداُ في حياتِها قصّةُ عنفٍ أُسريٍّ آخر مُؤطَّرٍ بالإهانات والصّمت المحميِّ بقوانين تعدُّدِ الزّوجات والتّهديد بالطّلاق وأشواك الحلال والحرام. عندئذٍ يصبح مشوار حياتها مُظلماً من دون آفاق، فتُقتلُ الأحلام وتموتُ التّطلُّعات.
إنّ موضوع العنف الأُسريّ ضدَّ المرأة، يحتلّ حيّزاً واسعاً من النّقاش الدّائر في المجتمعات العربيّة التي بلغت بعضُ فئاتها نصيباً من الانطلاق والتّطوُّر الثّقافي والحضاريّ. إلاّ أنه من المؤسف أنّ الكثيرين ما يزالون يرون في محاربة العنف المسلّط على المرأة العربيّة، ضرباً من العبثيّة والتّرف الثّقافي والانحراف نحو تقليد المظاهر الغربيّة في الحياة والاجتماع.
إنّ السّلطة القمعيّة الذّكوريّة في مجتمعاتنا العربيّة المُتخلِّفة، التي طالما احتقرت المرأةَ ونظرت إليها نظرةً مُتدنّية، وحصرتْ دورَها بين جدران المطبخ وغرف النّوم، لترفضُ أن تسمع صوتَ المرأة يعلو حاملاً آمالَها وتطلُّعاتِها وآراءَها.وليت الأمرَ يقف عند هذا الحدّ! إذ إنّ المشكلةَ لاتقتصرُ على هذه النّظرةِ الرّجعيّة المتخلِّفة، ولا في تلك التّقاليد البالية، بل تكمنُ في الدّفاع عن تلك التّقاليد باسم الدّين وتحت ستارٍ من التّشدُّد الدّينيّ المغرقِ في التّزمُّت المُضحكِ المُبكي.فالمُجتمعاتُ العربيّةُ تغرقُ أكثرَ فأكثر في وحول التّشدُّد الدّيني المقيت الذي لا يمتُّ إلى جوهر الدّين بصلة.
إنّنا بأمسّ الحاجة إلى رؤيةٍ دينيّةٍ صحيحة خاليةٍ من العُقد والتّزمُّت والجهل وعفونة التّفسير، وإلى نظامٍ مدنيٍّ يحترمُ الإنسان ذكراً كان أم أُنثى، ويعترف بدوره وحقِّه في الحياة، ويأخذُ رأيهُ على محمل النّقاش والمُثاقفة.إنّ ذلك يتحقّقُ عبر نظامٍ علمانيٍّ يحترم الإنسانَ والحرّيات الدّينيّة، ويمنحُ الرّجلَ والمرأة حقوقاً مُتساوية، نظام علمانيّ يُلغي الضّحيّةَ لأنّها أنثى، ويدينُ الجزّارَ والقاتلَ لأنّه رجل.