مضيق هرمز .. الضّامن المُحتمل

ريم الحسين:

 مع ازدياد حدّة المواجهات في الخليج العربيّ سواء من حيث تفجير ناقلات النّفط أو الشّحن وآخرها إسقاط إيران لطائرة التّجسّس الأمريكيّة والتّصريحات النّارية لأمريكا وحلفائها وخصوصاً العرب منهم، واتهام إيران بشكل مباشر عن هذه الأحداث وردود الفعل الإيرانيّة، والتّهديد بالردّ على أيّ عدوان محتمل بشتّى الوسائل العسكريّة والاقتصاديّة، ولعلّ أبرزها التّهديد بإغلاق مضيق هرمز.

أمريكا منذ استلام ترامب الرّئاسة وهي في تصعيد دائم مع إيران وكان أوّله الانسحاب من الاتفاق حول الملف النّووي الإيراني وليست الخطوة الوحيدة.

وبغضّ النّظر عن المستفيد الأساسي من التّوتر الحاصل أو هدفه من توجيه رسائل سياسيّة أو إشعال المنطقة بالحروب، يبقى الاقتصاد العالميّ هو المتضرّر الأكبر ممّا يحدث أو سيحدث لاحقاً.

فتيل الحرب الّذي يجلس على بركان خامد حتّى اللّحظة، لكنه بدأ بالغليان التدريجيّ، لن يرحم كل دول المنطقة. والمستفيد من بقاء النّزاعات والتّوتر أيّاً كان هدفه، فهو يعلم أنّ حرباً كهذه ليست نزهة.

وفضلاً عن التّرسانة العسكريّة الإيرانيّة وتهديد الكيان الإرهابي الإسرائيلي الابن المدلّل الأمريكي، فخيارات إيران باستخدام أدوات الضّغط الاقتصاديّ يبدو أنّها الأكثر جدوى حتّى الآن، وفي مقدمتها صادرات النّفط وإغلاق مضيق هرمز.

فلماذا تعوّل إيران على تهديدها بإغلاق مضيق هرمز كثيراً في كبح جماح أيّ مواجهة محتملة قادمة؟

مضيق هرمز هو الممرّ المائيّ الوحيد الّذي يؤدّي إلى الخليج العربيّ، ذلك أنّه لا توجد ناقلة نفط تدخل أو تخرج من أيّ ميناء موجود على سواحل الخليج العربي لا تمر من خلاله، وإيران تسيطر على السّاحل الشماليّ للمضيق في حين أنّ عمان والإمارات تسيطران على السّاحل الجنوبيّ، وأضيق نقطة للمضيق عرضها ٣٣ كم، فعند مرور ناقلات النّفط أو الشّحن تمرّ فقط من ممرّين في الاتجاهين عرض كلّ ممر ٣ كم

مُخصّصَين لها داخل المضيق، وبينهما منطقة عازلة عرضها حوالي ٣٢٠٠ كم، الممرّ الشّماليّ قريب من السّواحل الإيرانيّة.

أهميّة المضيق تكمن في حجم النّفط الّذي يعبر من خلاله، ففي النّصف الأوّل من عام ٢٠١٨ بلغ حجم النّفط الّذي يعبر الممر في اليوم الواحد 18.5 مليون برميل من النّفط الخام و٤ ملايين برميل منتجات نفطيّة، وهذا يُمثل خمس الإنتاج العالميّ من النّفط الخام، هذا غير ٣٠٠ مليون متر مكعّب من الغاز المُسال، وبناء عليه فإغلاق المضيق يُعتبر كابوساً لأسواق النّفط العالميّة، يعني خسارة خمس الإنتاج العالميّ من النّفط الخامّ، وهذا من الممكن أن يؤدّي إلى صدمة لم تشهد مثلها الأسواق منذ حظر النّفط الّذي فرضته (أوبك) عام ١٩٧٣ تزامناً مع حرب تشرين. فهل تستطيع إيران إغلاق هذا المضيق؟ وماهي المدّة القادرة على إغلاقه بها؟

كثرت التّحليلات السّياسيّة والاقتصاديّة في هذا الصدد ومنها المتناقض، لكن هناك دراسة مميّزة قدّمتها (كاتلين تلمادج) الدّكتورة المتخصّصة في الدّراسات الأمنيّة في جامعة جورج تاون، فقد جاوبت عن هذا السّؤال بشكل علميّ في بحث نُشر عام ٢٠٠٨ تحت عنوان (وقت الإغلاق)، وتضمّنت الدّراسة أنّ إيران قادرة على إغلاق المضيق بطريقتين، إمّا عن طريق إغراق عدد من السفن والنّاقلات عند أضيق نقطة في المضيق، ما يعني إغلاق طريق المرور، أو أن تنشر الألغام في محيط عمق المضيق مترافقة بقوات بريّة على السّاحل تستهدف بالصواريخ أيّ ناقلة أو قطعة بحريّة قد تحاول إزالة الألغام لإعادة فتح المضيق. إذاً قد يبقى المضيق مغلقاً لأسابيع وربما أشهر، وهذا يعتمد على قدرة الإيرانيين على إخفاء الرّادارات و بطاريات الصّواريخ المتمركزة على ساحلها المطلّ على المضيق من سلاح الجو الأمريكيّ، وهذا أسوأ سيناريو قد يحدث لأنّ خسارة العالم لخمس إنتاجه النفطي مدة طويلة يهدّد استقرار اقتصادات كثيرة في العالم، في الوقت الّذي يشهد النّمو الاقتصاديّ العالميّ انخفاضاً ملحوظاً، وحتّى إن لم يتم إغلاق المضيق فمجرد اندلاع صراع مسلح في منطقة الخليج كفيل برفع سعر البترول إلى أسعار خياليّة، فمن التصريحات والحوادث شهد هذا السّعر ارتفاعاً، فكيف في حال نشوب حرب؟

التّأثير الاقتصاديّ المتوقّع لأيّ مواجهة قد تنشأ بين أمريكا وإيران باختصار سيكون كارثيّاً للطرفين، فلن تستطيع إيران تصدير النّفط الخاص بها كما يجب، والّذي تشكّل إيراداته ٦٠ بالمئة من الإيرادات الحكوميّة، إضافة إلى أن ٧٠ بالمئة من واردات إيران المختلفة تصل عن طريق المضيق. وهذا يعني: (عليّ وعلى أعدائي).

أمّا بالنّسبة للأمريكي فيمكن العودة إلى دراسة نُشرت في شباط عام ٢٠١٠ لعشرة باحثين اقتصاديين أمريكيين بعنوان (واردات النّفط الخامّ والأمن القوميّ) إذ جرى حساب المرونة السّعريّة للطلب على النّفط الخامّ ووجدوا أنّها تساوي -4 بالمئة، أي أنّ المعروض في السّوق من النّفط الخامّ لو انخفض بنسبة ١٠ بالمئة فقط فسعر النّفط سيرتفع بنسبة ٢٥٠ بالمئة، وبما أنّ سعر النّفط حاليّاً مستقر بالقرب من ٧٠ دولار للبرميل، فانخفاض المعروض النّفطي بنسبة ١٠ بالمئة سيرفع من سعر البرميل ليصل إلى ٢٤٥ دولار تقريباً، يعني سيزيد سعر البرميل الواحد ١٧٥ دولار هذا في حال خسر المعروض ١٠ بالمئة فقط، فكيف لو خسر الـ ٢٠ بالمئة الّتي تمرّ من المضيق؟!

وارتفاع سعر النّفط العالميّ سيؤثر على الاقتصاد الأمريكيّ أيضاً، فقد ذكر الاقتصادي الفرنسي (أوليفر بلانشرد) والاقتصادي الإسباني (جوردي غالي) في بحث نشر عام ٢٠٠٧ عنوانه (تأثيرات الصّدمات النّفطيّة على الاقتصاد الكليّ) أنّ ارتفاع أسعار النّفط العالميّ بين ٦٠ إلى ٧٠ بالمئة عام ٢٠٠٥ و٢٠٠٦ أدى إلى تراجع النّاتج المحليّ الأمريكيّ إلى ٢ بالمئة تقريباً، وهذا جعل الاقتصاد الأمريكيّ مُعرّضاً للدّخول في حالة ركود عام ٢٠٠٧. وذكر البحث أيضاً أنّه لو حدث عمل عسكريّ على إيران وارتفع سعر النّفط بمقدار ٥٠ بالمئة فإنّ النّاتج المحليّ الأمريكيّ سينخفض بمقدار 1.6 بالمئة وبالتّالي تورّط الولايات المتّحدة بالرّكود مسألة وقت فقط!

ذلك أنّ نسبة التّراجع الّتي سيعاني منها النّاتج المحليّ الإجماليّ الأمريكيّ تعادل ٢٣٠ مليار تقريباً، عدا تكلفة التّدخل العسكريّ الماديّة والبشريّة، وبعيداً عن النّاتج المحليّ فارتفاع أسعار النّفط سيكون له تأثير مباشر سيشعر به المواطن الأمريكيّ من خلال أسعار البنزين الّتي تتغيّر بشكل تلقائيّ تِبعاً لسعر النّفط الخامّ وهو حاليّاً مع زيادة طفيفة خلال الأشهر المنصرمة مستقرّ عند 2.84 دولار/غالون. ورأى عدّة اقتصاديين أمريكيين أنّه في حال أيّ مواجهة سيصل إلى أكثر من ٤ دولارات للغالون، ولو خرجت الأمور مع إيران عن نطاق السّيطرة سيكلّف المستهلكين الأمريكيين مليارات الدّولارات وسيؤثّر سلباً على حجم إنفاقهم الّذي يُعتبر المحرّك الأساسيّ للاقتصاد الأمريكيّ، فهل ستردع التّأثيرات الاقتصاديّة المحتملة أمريكا عن الدّخول في حرب مع إيران، رغم أنّ ميزان القوّة العسكريّة يميل لصالحها؟

ربما يكون جواب هذا السّؤال بالعودة للدّاخل الأمريكيّ والمشهد السّياسيّ هناك، فعند فوز ترامب على هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسيّة عام ٢٠١٦ كان هناك توقّعات بانهيار سوق الأسهم ودخول الاقتصاد في أزمة، لكن ما حدث هو العكس تماماً فسوق الأسهم شهد أحد أفضل موجات الصّعود في تاريخه ومعدّلات النّموّ الاقتصاديّ والتّوظيف في ارتفاع كبير، الإنجازات الاقتصاديّة هذه هي الورقة الرّابحة الّتي يحمي ترامب بها نفسه في ظلّ عاصفة الفضائح الكثيرة الّتي طالته شخصيّاً وإدارته وسيستخدم الإنجازات الإقتصاديّة هذه في الدّعاية لنفسه ضمن الانتخابات القادمة في عام ٢٠٢٠، فهل سيخاطر ترامب بتعريض إنجازه الوحيد لاحتمالات البتر ويدخل في حرب شاملة مع إيران ستؤثّر سلباً بشكل أو بآخر على هذا الإنجاز؟

هذا عدا تأثير هذه الحرب بشكل أكبر ومباشر على دول الخليج العربيّ، ذلك أنّه في عام ٢٠١٨ صدّرت العراق والسّعودية والإمارات والكويت وقطر حوالي ٢٢ مليون برميل من النّفط ومشتقّاته يوميّاً من خلال ناقلات جميعها عبرت مضيق هرمز، الكميّة هذه تشكّل حوالي ٢٤ بالمئة من سوق النّفط العالميّ، ذلك أنّه يخرج بالمتوسط حوالي ٣٣ حاملة نفط وغاز يوميّاً من المضيق، وأغلب السّفن هذه وجهتها آسيا وتحديداً الصّين والهند وكوريا الجنوبيّة واليابان، وقد راهن ترامب أنّه يعتمد على دول الخليج في موازنة الأسعار في حال خروج النّفط الإيرانيّ من السّوق، وهذا يعني أنّ عليها أن تضخ كميات أكبر من النفط لتعويض غياب النّفط الإيرانيّ، ولدول الخليج القدرة في حال عدم نشوء نزاع مسلح مع دول الخليج وخصوصاً السّعودية والإمارات والكويت الّتي لديها (طاقة إنتاجيّة فائضة) لكن هذه الطّاقة الإنتاجيّة ليس لها أيّ عمل في حال إغلاق مضيق هرمز أو حدوث حرب، ولذلك ستكون في موقف اقتصاديّ لا تُحسد عليه في حال إغلاق المضيق، ولن تستطيع مساعدة اقتصاداتها لتساعد اقتصاد ترامب، فلن تستطيع أن تستفيد من ارتفاع أسعار النّفط لأنّها لن تستطيع إخراجه بمعظمه من الأساس في حال إغلاق المضيق.

السّعودية والإمارات والكويت سيتأثّرون بشكل مباشر لأنّهم أهمّ منتجي النّفط في المنطقة ولن يكون حال قطر أفضل والّتي تنتج حوالي ٧٧ مليون طن من من الغاز المُسال الطبيعيّ سنويّاً ما يشكل ٣٠ بالمئة من الإنتاج العالميّ وهو يمرّ أيضاً من مضيق هرمز وفي حال إغلاقه لن تستطيع قطر تزويد المستوردين في أوربا وآسيا، فغالبهم سيوقع وقتئذ اتفاقيّات توريد مع المنافس العالميّ لها وهي أستراليا، ولن تستطيع دول الخليج تصدير النّفط والغاز من موانئ البحر الأحمر لارتفاع تكلفة النّقل بشكل كبير عن المضيق، إضافة إلى أنّ أي مواجهة في منطقة الخليج ستؤثّر أيضاً ولو بشكل غير مباشر على طرق العبور والموانئ الأخرى وفي مقدمتها طريق البحر الأحمر.

وليس هذا الخطر الوحيد الّذي يواجه دول الخليج، فالكثير من الخبراء العسكريين يتوقّعون احتمال استهداف إيران للمنشآت النفطيّة في بعض الدّول الخليجيّة في حال تطور النّزاع لحرب شاملة وعندها لن تنفع هذه الدّول قواعد الحماية الأمريكيّة ولا قنوات الجزيرة والعربيّة وسيبقى إنجازها العسكريّ الوحيد هو قتل أطفال اليمن بالصّواريخ والأوبئة والأمراض والمجاعة وتصدير الإرهابيين والمال القذر إلى دول الرّبيع الدّموي.

غير الآثار على الدّول الفقيرة الّتي تستورد النّفط والّتي سيزيد لديها عجز الموازنة بشكل كبير وسيتعرض ميزانها التّجاري لكوارث وستزيد ديونها لتغطية تكلفة احتياجاتها النّفطية وستكون تكلفة هذه الدّيون عاليّة جدّاً من الفوائد أيضاً وزيادة أسعار النّفط والمواد المصنّعة وهذا هلاك أكيد لمواطنيها الّذين يعانون من فقر مدقع وسوء الأحوال المعيشيّة في الحالة الطبيعيّة.

فهل سيكون مضيق هرمز ضامناً محتملاً للسّلم الحذر في تلك المنطقة أم سيكون لأمريكا حسابات أخرى مع حلفائها وفي مقدّمتهم الاحتلال الإسرائيليّ ودول الخليج الغارقة أصلاً في حرب اليمن وتمويل المؤامرات والإرهاب في دول أخرى.

وهل قوّة الرّدع الإيرانيّ العسكريّة والاقتصاديّة والزّخم البشريّ العقائديّ وتحالفاتها في المنطقة وخصوصاً العراق وسورية ولبنان وفلسطين وتفعيل مقاوماتها المدعومة في تلك الدّول من قبلها والّتي تتعرّض مصالحها بها في كلّ فترة لاستهداف إسرائيليّ، غير القواعد الأمريكيّة المنتشرة في المنطقة، ستكون أيضاً كفيلة بتجنّب هذا الكابوس أم أنّها حرب نفسيّة ولتغرق المنطقة الملتهبة أصلاً والقابعة في الفوضى غير الخلّاقة نتيجة تحريض ودعم أمريكيّ مطلق أم أنّها مقدمة لصفقة القرن الّتي يرّوج لها الأمريكيّ؟

سيشهد العالم قوّة مضيق هرمز من عدمها في الفترة القريبة القادمة، ومعادلات أخرى ستُفرض على الأرض ستغيّر من خريطة القوّة العالميّة وتوأد مشاريع البلطجة الأمريكيّة، وصعود لاقتصادات أخرى ودول عظمى كروسيا والصّين وتثبّت قدرة الإيرانيّ على تنفيذ تهديداته ومعرفة حجم قوته الحقيقيّ، وقد برهنت الحرب السّورية قدرة الأصدقاء والحلفاء على المواجهة.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1104 - 24/4/2024