عام إعادة النظر

يونس صالح:

تطلع ملايين البشر الذين يستوقفهم الانتقال الزماني إلى عام 2019، كي يقفوا لحظة ويطمحوا أن تحقق الأيام والشهور القادمة وضعاً أفضل لبلادنا والإنسانية.

لكن شيمة التفكير العلمي الصحيح تختلف عن التكهن والتوقع غير المحسوب، التفكير العلمي الصحيح يدعونا – إن أردنا استشراف المستقبل- أن ننظر إلى الماضي فنعي دروسه ونفسر نتائجه.

إن أبرز الظواهر التي استمرت في العام الماضي، على الصعيد الدولي هو بقاء الأزمة الاقتصادية العالمية وتذبذب سوق البورصات وأسعار الأسهم، واستمرار البطالة، وتأزم الأوضاع في الكثير من أصقاع العالم، والحروب المحدودة المنتشرة هنا وهناك.. وخصوصاً في منطقتنا، التي تتميز بموقعها الاستراتيجي وثرواتها الطاقية الكبيرة التي يعتمد عليها العالم بأسره تقريباً، وتفاقم حدة التناقضات بين الدول الرأسمالية الكبرى من جهة، وشعوب العالم من جهة أخرى. إن كل ذلك يذكر بما حدث عام 1929، فقد كانت بدايته في (وول ستريت)، وما لبث أن انسحب أيضاً على العالم في شكل انكماش ضخم، ولم تكد تمضي عشر سنوات بعد ذلك حتى دخلت البشرية في حرب طاحنة, وفي ظروف العالم السياسية والعسكرية المحيطة بنا، ربما لن يلجأ العالم إلى حرب عالمية كما سبق أن فعل، إذ ستكون تلك الحرب- إن وقعت- باهظة التكاليف إنسانياً، إلا أن الحلول والمخارج الأخرى المطروحة قد تعنينا نحن في بلادنا خاصة، والبلدان العربية، والنامية عموماً، حيث مناطق الانفجار والتفجير متعددة، وحيث الثروة المعدنية والطاقية والموقع الجغرافي. فأسباب التأزم هناك في النظام الرأسمالي والمجتمعات التي تأخذ به، لكن نتائج هذا التأزم تؤثر علينا بصورة كبيرة؟

قد تكون التساؤلات السابقة في صيغتها المطروحة استفزازية لبعضهم، بيد أنها بدأت تطرح في الغرب، ربما ليس من أجل البحث عن بديل، بل من أجل الإصلاح.

هناك وجهات نظر قوية يدافع عنها مفكرون لهم مكانتهم في مجتمعاتهم تقول بقرب نهاية النظام الرأسمالي، وإن هذا النظام لن يبقى مخلداً، إنه نظام له ميكانيكيته الخاصة به، وهناك البعض يرى أن هذا النظام (الرأسمالي) بصياغاته المتعددة، قد فشل الآن في تحقيق أهم أهدافه المعلنة، وهي الاستقرار، أما تفاصيل هذا الفشل فهي كثيرة، كما أن آخرين يعتقدون أن فشل النظام الرأسمالي هو مكون رئيسي في داخل هذا النظام نفسه، فالجري اللاأخلاقي وراء الأرباح سيعمل في النهاية على إفساد المجتمع وتخريبه، فكسب الربح فقط يؤدي إلى إنتاج سلع ضارة، وتسويقها على المستوى المجتمعي الضيق، أو على المستوى الدولي، كما أنه يؤدي أيضاً إلى ممارسات لا إنسانية.

وقائع الأحداث في السنوات القليلة الماضية تشير إلى أنه حتى النظام الرأسمالي المقنن الذي ظهر وتطور فيما بعد الحرب العالمية الثانية، قد بدأ الابتعاد عنه منذ السبعينيات من القرن الماضي، وكان هذا الابتعاد تحت تصور مفاده أن ذاك النظام المقنن من حيث تنظيم العلاقة بين العمال وأصحاب العمل، وتحديد مستويات عادلة نسبياً للأجور وضمانات صحية واجتماعية كثيرة، إن كل ذلك هو من أسباب الأزمة التي ظهرت في ذلك الوقت، لذلك لابد من العودة – في نظرهم- إلى مثالية النظام الرأسمالي في سنواته الأولى، أي إطلاق قوى السوق كي تنظم المجتمع، وهي من ضمن أمور أخرى حرية العمل وعدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، أو كما قال ملتون فريدمان، أحد المنظرين الرئيسيين لهذا التوجه: (إن العمل الوحيد للرأسمال الكفء هو زيادة الأرباح إلى حدها الأقصى ضمن حدود القانون الذي سنته السلطات التشريعية).

المشكلة أن هذا التوجه النظري وجد من السياسيين في بحثهم عن حلول سريعة – من يأخذ به حرفياً، فكانت ظاهره التاتشرية والريغانية.

إن هذه السياسة وفرت القوانين الشرعية التي يطالب بها (ملتون فريدمان) ومؤيدوه، وفي إطار من المحافظة الشديدة توجه الاقتصاد الرأسمالي في أوربا والولايات المتحدة إلى تلك الأهداف، وهي إطلاق قوى السوق العمياء، فكان محركها الرئيسي هو الجشع، الذي أنتج الأزمة.

كتب أحد المعلقين في إحدى المحلات الأمريكية يقول بسخرية: (إن الأغنياء لم يعملوا لقلة ما لديهم من مال، وأن الفقراء لم يعملوا لأن لديهم مالاً كثيراً!).

مفارقة عجيبة لكنها تلخيص قد يكون حقيقياً للتطورات التي حدثت بعد ذلك.

وحتى تتحقق الأفكار الاقتصادية الجديدة قلصت الحكومات الرأسمالية في أوربا والولايات المتحدة تدخلها في الشؤون الاقتصادية، تاركة كل ذلك للقطاع الخاص وقوى السوق.

إن التطبيق الكاسح لما عرف بـ(النظرية النقدية)، مدرسة (ملتون فريدمان) ومدرسة شيكاغو الاقتصادية، في محاولة لإصلاح عيوب النظام الرأسمالي، قد أدى إلى ظهور عيوب جديدة، فقد أصبح العالم- كل العالم- يعاني من مشكلة العجز الهائل في ميزانية الولايات المتحدة، وأصبح واضحاً أن هناك انفصاماً بين النظرية وبين الواقع، مهما حاول السياسيون أن يطوعوا ذاك الواقع كي يتلاءم مع معتقداتهم أو رغباتهم السياسية.

لقد تفاقم العجز المالي في الميزانية الأمريكية، وفي اقتصاد أصبح عالمياً أكثر بكثير مما كان في القرن الماضي، فإن الاضطراب في أي جزء فيه يسبب اضطراباً في أجزاء أخرى. إن الاقتصاد بمعنى الكلمة اليوم (عالمي) ونتائج هذا الاضطراب يمكن أن تكون عالمية بشكل أخطر مما كان عليه سابقاً.

إن الفكر الرأسمالي الذي ساد حاول أثناء التطبيق تعديل مساره نتيجة الأزمات التي مر بها، إلا أن القضية أبعد من ذلك، فهي ليست مقصورة على المدخل الاقتصادي البحت، وإن نظرنا إليها كذلك فإن تلك النظرة، على الأقل، قاصرة.

بعض الغلاة يذهب حتى إلى القول بأن لا يوجد (علم) اقتصاد أو (علم) سياسة، بعيداً عن واقع المجتمع وتفاعلاته، وأحسب أن الخبرة السابقة في السنوات القليلة الماضية قد أثبتت جزئياً هذه المقولة. فهناك (نظام اقتصادي اجتماعي سياسي) متكامل يجب النظر إليه وتحليله، لا اقتصاد فقط أو سياسة فقط.. إلخ، وفي العزل القسري لمكونات المجتمع التي هي في الواقع إضرار بالفهم الصحيح للمشكلة الهيكلية.

وفي الماضي غير البعيد كان (النظام الاقتصادي الاجتماعي السياسي) الذي يعيش الناس في ظله يؤخذ على أنه أمر واقع لا خيار للناس فيه ولا سبيل إلى مناقشته. وكان بين الناس الذين يعيشون ذاك الزمان والذين كان مصدر دخلهم في الغالب هو استغلال الأرض، أناس فقراء، وآخرون مضطهدون، وبالتالي كانت هناك فئات من الناس الذين لم يكونوا يشعرون بالسعادة، إلا أن الكثيرين منهم كانوا يرجعون السبب في شقائهم إما للمصادفات أو لسوء الحظ أو الطبيعة البشرية أو القدر.. أما وجود خلل في النظام الاجتماعي، وكون هذا الخلل هو أحد الأسباب المهمة لهذا الشقاء، فلم تظهر إلى الوجود إلا في العصور المتأخرة.

لقد ظهرت نظريات عديدة لشرح مسيرة البشرية وتفسيرها وتوقع ما يحدث فيها.. هذه النظريات اعتمدت على فكرة رئيسية هي أن الفقراء والظلم من صنع الإنسان، وأن الخلل الاجتماعي ما هو إلا نتاج لقرارات بعض البشر، والأنظمة التي يختارونها لتسيير حياتهم.

لذلك جاءت الكتابات الكثيرة في شرح عيوب النظام الرأسمالي الذي يُحل (الأرباح) محل كل القيم الإنسانية، ويعتبر أن (الثروة) هي أحسن ما في الوجود.. لأن الإنسان يمكن أن يحصل على كل شيء بواسطتها، ويتجه الناس في هذا النظام للبحث عما يغنيهم لا ما يرضيهم.. في إطار هذه الفلسفة تصاعدت الأزمات في المجتمعات الرأسمالية وفي مجتمعات البلدان النامية التي سقطت تحت وطأة الديون، وبيع إنتاجها بأبخس الأسعار.

في عالم كهذا لا يوجد مع الأسف أي توقع ملموس بالتغيير في القريب العاجل، وفي بلدنا ننظر إلى عام 2019 الذي نعيشه بقلق ووجل.. هناك حرب ضارية وظالمة تشن علينا، تشارك فيها وتمولها دول كثيرة، وهناك حرب في الخليج على الشعب اليمني، تمول أيضاً وتجلب الدمار لهذا البلد، وهناك انخفاض في الأسعار الحقيقية للصادرات، وهناك مشكلات اقتصادية وديون خارجية يئن تحت وطأتها كثير من البلدان العربية والنامية، كل ذلك إلى جانب فشل كبير في الكثير من خطط التنمية، وتفاقم التناقضات بين الدول الرأسمالية، وانعكاس ذلك علينا، وفي الوقت نفسه تتأرجح كثير من البلدان بين (انفتاح) اقتصادي على أسوأ أشكال الرأسمالية تطبيقاً أو (انغلاق) غير مصاحب بتنمية مصادر حقيقية للثروة.

هذا الواقع يشكل حالة ذهنية خطيرة تعمل على تقويض الأمن العالمي وإثارة الفوضى في أرجاء المعمورة.

العدد 1102 - 03/4/2024