حريّة المتاعـب!

ريم الحسين:

(أنا شخصياً بتّ مقتنعاً بأنّ العمل في هذه المهنة المسماة (إعلام) أصبح ضرباً من الجنون.. وبناءً عليه اتخذت وأنا بكامل (جبني وخوفي) قراراً حاسماً بهجر مهنتي الّتي أحبّ إلى أجل غير مسمى.. وربما نهائيّ.. وأبحث حاليّاً عن عمل (بيطعمي خبز) دون أيّ مخاطرة، لأنّو أساساً ما في شي بيستاهل (المخاطرة)!!

سامحونا.. واستروا ما شفتوا منا!).

بهذه الكلمات اختتم الصّحفي علي حسون (رئيس تحرير جريدة الأيّام السّورية) قرار اعتزاله عن العمل الصحفيّ، من خلال صفحته الشّخصيّة على (الفيسبوك)، وذلك بعد أيّام من اعتزال الإعلاميّ والمراسل الحربيّ رئيف السلامة، هذا المضمار، معلناً تضامنه الكامل معه، بعد اعتقاله لمدّة 23 يوماً بتهمة الإساءة لوزير الصّحة عبر صفحة على الفيسبوك (يشتبه) بأنّها عائدة له!! إضافة إلى أسباب أخرى تتعلّق (بالخوف) من المصير الّذي سيلاقيه معظم الصّحفيين، والمضايقات الّتي يتعرّضون لها في هذه المهنة.

رئيف، رافق أبطال الجّيش السّوريّ على مدار سنوات الحرب في عدّة جبهات، إضافة إلى كونه عضواً فاعلاً ونشيطاً في (حزب البعث)، وسبق أن خاض جدالاً كبيراً مع عدّة شخصيات معارضة لفكر البعث، الّذي دافع عنه كقضيّة مصيريّة في وقت لم تعد بعد هذه الحرب تجد هذا الانتماء دون مصالح إلّا ما ندر!

ولحق بهما صحفي آخر هو ياسر العمر، الّذي مارس أيضاً العمل الصّحفي الحربيّ الميدانيّ لعدة سنوات، فضلاً عن الاعتقالات الّتي طالت شخصيات، كالمخرج والنّاقد المسرحيّ ياسر دريباتي، الّذي اعتقلته الشّرطة القضائيّة كمجرم، كما تحدّث أخوه، نتيجة مقال نقديّ لمسرحيّة وادّعاء عليه بالتّشهير، رغم أنّ المقال لم يتعرّض بشكل شخصيّ لصاحب العمل وإنّما انتقد العمل! إضافة إلى المهندس الستّينيّ غسان جديد، الّذي كتب مراراً عن الفساد والصّحفي، وسام الطير، الّذي مازال مصيره مجهولاً حتّى الآن، فضلاً عمّن مُنعوا من ممارسة العمل الصّحفيّ داخل البلد، دون وجه حقّ، رغم التّضحيات والعمل الحربيّ الميدانيّ الشّاقّ والجادّ والمستمر كالإعلاميين رضا الباشا، وإياد الحسين، وذلك نتيجة تهم باطلة وملفّقة، بسبب كتابتهم عن الفساد، واللّذين باشرا العمل خارج أراضي الجمهورية حبّاً بالمهنة وحرماناً لهما منها داخل وطنهما الأمّ، والقائمة على ما يبدو لم تبدأ بهؤلاء ولن تنتهي بهم، سواء كان من ناحية الاعتقالات أو قرار الاعتزال أو الاستبعاد!

وهنا السّؤال المهمّ: ما هو مصير الصّحافة والصّحفيين في بلد يصنّف من أسوأ البلدان في حريّة الصّحافة؟

وهل مهنة المتاعب والمخاطرة هذه تستحقّ هذه التّضحية؟

التّهمة جاهزة: (وهن عزيمة الأمّة والمساس بهيبة الدّولة)!

بعد هذه الحرب، أليس الأجدى مراجعة العقليّة القديمة في إطار التّعامل مع الصّحافة، ووضع قيود على الأقلّ ظاهرة دون تأويل، بحيث يعلم الصّحفيّ أين حدوده، دون تلفيق التّهم ودون العبارات الفضفاضة الّتي لا يعلم الصّحفي ما يندرج تحتها، ولا متى سيتمّ اعتقاله دون سبب واضح، أو لممارسات صلاحيات في النّقد طالت جهات عصيّة على النّقد!

وما الفائدة من كونك صحفياً كالببغاء أو بوقاً أو مسايراً نتيجة مصالح أو من الخوف، فهنا لم تعد الصّحافة نزيهة ولا تحتوي أدنى درجات الشّفافية والمسؤوليّة والمهنيّة، الجميع قادر على مواكبة الحدث على طريقة ما يريده أصحاب القرار دون التّعرض للنّقد أو خفايا الفساد، لكن بذلك تفقد مهنة الإعلام مصداقيتها وتتحوّل إلى أداة للنّفاق والمحاباة، إمّا بسبب الرّعب أو لمصلحة ومنفعة ماديّة أو شخصيّة.

(لا أريد لأحد أن يسكت عن الخطأ أو يتستّر عن العيوب والنواقص) عبارة للرئيس حافظ الأسد، لطالما تغنّى بها الإعلاميون وكأنّها طوق نجاة، لكن على أرض الواقع من لا يسكت يتعرّض للإسكات بشتّى الطّرق، فما عهدنا من مسؤولينا حفظ الوصيّة.

لم يعد مستقبل الصّحافة في خطر، فلم يكن ماضيها ولا حاضرها في أمان، فسياسة كمّ الأفواه في تصعيد وربما السّبب أيضاً في زيادتها توفّر أمكنة أخرى غير الصّحف كوسائل التّواصل الاجتماعيّ الّتي أصبحت منبراً لمعظم النّاس للتّعبير عن آرائهم أو شكواهم وما إلى ذلك من واقعهم المرير.

إذاً، لا حلّ آخر، إمّا صحافة الجمود والتّصفيق أو صحافة معرّضة للخطر والرّعب في كلّ لحظة، مع أنّ الإعلام هو من أكثر وسائل تحضّر المجتمعات ورقيّها فائدة، والحديث عن ماهيّة الإعلام وأصوله وفوائده يطول.

لن ننهض ما دام حقّ التّعبير وحريّة الرّأي والنّقد لا يملكان إلّا مساحة ضيّقة ومع رقابة مشدّدة، وما دام كلّ من يخالف المحظور والتّابوهات المحرمّة يصبح على اللّائحة السّوداء فيُعتقل أو تُلفّق له تهمة لاحقاً، وكتابتي هذا المقال رغم التّحفظ الشّديد لا تُنذر بأيّ شيء مهما كانت الجدوى، لكنّ الحقّ يُقال سيفعل الحبر مفعول الرّصاص، وما الكتابة عندما يكون الوطن في خطر إلّا فعل مقاومة، فالإعلام ليس فقط مسؤوليّة وإنّما شهدت الحروب على أنّها إعلاميّة بالدّرجة الأولى قبل أن تكون ناريّة، فلنتعظ يا أولي الألباب ولنترك الشّرفاء يكتشفون مكامن الخطأ والفساد ويشيرون إليها حتّى يشفى وطننا الجّريح المعرّض لطعنات الدّاخل قبل الخارج!

(الإعلام معنيّ بالتّثقيف ومكلّف بمكافحة الفساد)_ السّيد الرّئيس بشار الأسد.

فلنسمع كلام الرئيس جيداً ولنسمح بتطبيقه بشكل إيجابيّ، وكفى هجرة للكفاءات وخنقاً للإعلام وكأنّه مجرم مشبوه! لا تخافوه فترهبوه، إن كنتم على صواب ونزاهة! وإن يكن فلتوجّه التّهم بشكل قانونيّ وليُدعَ المتّهم إلى محكمة عادلة يبتّ فيها قضاء نزيه دون حاجة إلى الاعتقالات التّعسفيّة والكيديّة والتّلفيق ودون غياب بلا تهمة أو أثر. يستحقّ منّا هذا الوطن المحاولة، يستحقّ الحضارة والبناء.

لنخلق وطناً آمناً مبنياً على الفكر والتنوير، لا على الخوف والرعب!

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1102 - 03/4/2024