مـاذا عن الغد؟ أين توجهت الاستثمارات في الماضي؟

بشار المنيّر:

تعمل الحكومة على وضع الصيغة النهائية لقانون الاستثمار الجديد، بعد أن أعادت النظر بعدد من المشاريع السابقة، ولا نعلم، هنا، هل أخذت الحكومة بالحسبان تجاربنا السابقة مع قوانين الاستثمار منذ عام 1991؟ هل درست بعمق ما أدت إليه التجارب السابقة مع المستثمرين الوطنيين والأجانب؟ وما القيمة المضافة التي قدمتها الاستثمارات خلال العقدين الماضيين لقطاعاتنا الاقتصادية؟ هل سيوجه القانون الجديد الرساميل المستثمرة نحو القطاعات الأساسية المنتجة، أم سيُترك الأمر، كما جرى في الماضي، لمشيئة المستثمرين، في مرحلة تتطلب خطة حكومية واضحة لإعادة إعمار بلادنا بعد تداعيات الأزمة والغز والإرهابي؟

لقد طالبنا على صفحات (النور)، وطالب غيرُنا أيضاً، بأن توضع خطة حكومية، بمشاركة القطاع الخاص المنتج، لإعادة الإعمار، وكنا نتوقع أن تعلَن هذه الخطة قبل وضع القوانين المحفزة للرساميل الوطنية، كي توجهها إلى أوليات عملية إعادة الإعمار، لا أن تُترك هذه الاستثمارات تبحث عن الربح في قطاعات ريعية وهامشية، وتبقى القطاعات الرئيسية المنتجة تعاني نقصاً في الاستثمارات.

 

نظرة إلى الماضي

منذ إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وفق اقتصاد السوق في عام ،2000 عملت الحكومات المتعاقبة على تشجيع الاستثمارات، بجميع مسمياتها، على توظيف الأموال في قطاعات الاقتصاد السوري، استناداً لمبدأ التعددية الاقتصادية، فأزاحت عن طريقها آلاف العقبات والحواجز والعراقيل، بل ألغت، من أجل استكمال أسباب تغلغلها في شرايين الاقتصاد الوطني، مئات القوانين المعيقة، وسنّت بدلاً منها قوانين جديدة. ورغم ما جاء في التشريعات الناظمة لعملية الاستثمار من عوامل جذب للاستثمارات، وتشميل 2495 مشروعاً بين الأعوام الممتدة بين 2001 و،2009 بلغت تكاليفها الاستثمارية نحو تريليون و550 مليار ليرة سورية، وقد احتلت سورية المرتبة 137 عالمياً في مؤشر سهولة الأعمال عام ،2009 متقدمة من المرتبة 140 عام ،2008 كما احتلت المرتبة الحادية عشرة من أصل 18 دولة عربية في استقطاب الرساميل الأجنبية البالغة نحو 7,80 مليار دولار عام ،2009 إذ استقطبت نحو5,1 مليار دولار.

الحكومات السابقة لم تكتفِ آنذاك بعدم ضخ استثمارات جديدة في القطاع العام الصناعي بهدف تحديثه وتطويره، ليؤدي دوره في العملية الاقتصادية، بل إنها أحجمت أيضاً عن توجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة، فهي استثمارات لمجرد دخولها الأراضي السورية، وهي استثمارات حتى إذا كانت تنتج (زيت الخروع والشامبو)، وهي استثمارات حتى إذا راحت تضارب بأسعار الأراضي والعقارات! وتقيم الجزر العقارية والسياحية المخصصة للنخبة. فلنتابع هنا انعكاس هذه السياسات الاستثمارية على القطاع الأبرز في الاقتصاد السوري، وهو قطاع الصناعة التحويلية الذي يعدّ بجميع المقاييس القاطرة لأي تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية.

قالت الحكومة آنذاك، على لسان النائب الاقتصادي، إن حجم الاستثمارات في الصناعات التحويلية خلال سنوات 2004 ،2008 بلغ 400 مليار ليرة سورية، وإن معدل نمو الناتج الصناعي بلغ وسطياً 14%، وهي تسهم بنحو 12% من الناتج المحلي الإجمالي، وتوفر فرص العمل لنحو مليون عامل، لكن وزارة الصناعة، في آخر تحليل للوضع الراهن للصناعة السورية، أجرته بالتعاون مع هيئة تخطيط الدولة، تقول شيئاً آخر: نسبة مساهمة قطاع الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي بلغت 8,7% في عام 2008 بعد أن كانت 6% في عام ،2005 وساهم في تشغيل نحو 10% من إجمالي العاملين في عام 2008. (1)

أين الحقيقة؟

والآن، أين الحقيقة في حجم الاستثمارات؟ وأين الحقيقة في نسبة مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي؟ هل أدى توظيف هذه المليارات إلى هذا التطور (المخزي) لمساهمة الصناعة في الناتج من 6% إلى 8,7 %؟! وكيف توصّل النائب السابق إلى نسبة 12% التي ردّدها باستمرار؟

الحقيقة في مكان آخر، إنها السعي المحموم لاستجداء الاستثمارات دون توجيه.. دون تخطيط لما نريده من هذه الاستثمارات. وإذا استثنينا الاستثمارات الواردة بموجب اتفاقيات بين الحكومة والصناديق العربية والأجنبية لأهداف محددة، نتوصل إلى أمور أغرب من الخيال!

مليارات استُثمرت في الزراعة، لكن مساهمة الزراعة في الناتج المحلي تراجعت من 24% إلى 17% بين عامي 2006  و2010! مليارات استُثمرت في النقل، لكنها لم تذهب إلى النقل السككي، بل لشراء بولمانات وسيارات وميكروباصات! وما يزال المواطن يعاني حتى يومنا هذا أزمة في النقل والتنقل! مليارات ومليارات استُثمرت في السياحة وأخرى في العقارات، لكنها لم تؤدِّ إلى تحسين الوضع المعيشي للمواطن السوري، بل ازدادت الصعوبات التي يعانيها، وتراجع دخله الحقيقي، وارتفعت نسبة البطالة، وتعدّدت وتوسعت بؤر الفقر، فأين الحقيقة في مساهمة الاستثمارات في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية؟

 

الاستثمار الأجنبي المباشر

ازداد تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة  إلى سورية خلال الفترة الممتدة بين عام ،2000 وعام ،2008 ويبين الجدول (1) حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة المتدفقة إلى البلاد بملايين الدولارات.

بلغ عدد المشاريع الاستثمارية التي تضم شركاء عرب وأجانب، المشمولة بقوانين الاستثمار 234 مشروعاً، منذ عام 1991 ولغاية عام ،2008 وبلغت تكاليفها الاستثمارية 692 ملياراً و700 مليون ليرة سورية، أي ما نسبته 43% من إجمالي التكاليف الاستثمارية لجميع المشاريع المشمولة بقوانين الاستثمار.

ويبيّن الجدول (2) مشروعات الاستثمار الأجنبي المنفذة، وقيد التنفيذ، في الفترة الممتدة بين عام 2004 وعام ،2008 بملايين الدولارات، ويتضح منه  توجُّه الاستثمار الأجنبي المباشر نحو القطاعات الخدمية والعقارية والسياحية والمصرفية، فهو لم يخرج عن المسار التقليدي لمساهمته في جميع البلدان النامية.

 

أخيراً

إنها أمثلة من الماضي، أوردناها بهدف أخذ العبر والدروس، والعمل على وضع قانون للاستثمار يأخذ بالحسبان المرحلة التي تمر بها بلادنا، وعدم الاكتفاء بوضع تشريع يلبي المتطلبات الاقتصادية المحضة فقط، بل يدقق في انعكاسها على الوضع الاجتماعي والمعيشي لجماهير الشعب السوري، الذي عانى كثيراً قبل الأزمة والغزو، وخلال سنوات الجمر المريرة.

وأخيراً، أيُّ تشريع استثماري محفّز للرساميل الوطنية والأجنبية، لن يُكتب له تحقيق أهدافه دون حزمة من التشريعات الأخرى المساندة، والإجراءات التي تقنع المستثمرين بالبيئة الجاذبة لاستثماراتهم، وأهمها القضاء العادل والنزيه، والمناخ الخالي من الفساد و(المتعيّشين) ومقتنصي فرص الاستثمار، والإدارة الواعية للعملية الاستثمارية.. البعيدة عن الروتين والبيروقراطية، لكن الأبرز هنا هو معدل الأجور في البلاد، فالأجور المنخفضة بعكس ما يتصوره البعض، لا تشجع على الاستثمار، لأن أجوراً منخفضة تعني تراجع معدلات الاستهلاك، وبالتالي زيادة فترات استرداد الأموال المستثمرة.

ننتظر المشروع النهائي لقانون الاستثمار، ولنا عودة أخرى.

 

(*)  عضو جمعية العلوم الاقتصادية

 

المراجع:

1 – التقرير الثالث لهيئة الاستثمار 2008.

العدد 1104 - 24/4/2024