ثأري
غزل حسين المصطفى:
كان جسدي، يومئذٍ، وكأنه في قبضة أحدهم تُكوّر مثل ورقة صفراء تالفة، حتّى أضلاع القفص الصدري كانت تُعجن مع قلبي، سمعت صوت تَكسُّرها واحدة تلو الأخرى، وفقرات ظهري لم تسلم فقد دخلت غمار معركة الطحن!!
لا أدري ما إن بقي في صدري رئة، لأن كل ما أذكره في تلك اللحظات أنّي تمنيتُ تمزيقَ جلدي لعلّ الهواء يُثلج لهيب ألمي.
خانتني الرؤية، رغم أنّي كنت ألبس الأسود، ومن حولي كذلك، لكنّي لم أستطع تمييز إلّا سماء غائمة من فوقي تدور وكل ما حولي يتحوّل لضباب.
حشرجت بأنفاسي، كانت الثعابين تَقرص حنجرتي، توجب أن أطلب المساعدة، فالجاذبية الأرضية تضاعفت وأحسست أن الأرض تناديني، كدتُ أعانقها لكن هيكلاً عظيماً أمسك بذراعي وشدّني نحو صدره لشدّة ضخامته وصغري، حينئذٍ غَرِقتُ في حُضنه. خلّصني من حُمّى الهذيان وأدركت أن الموقف حقيقة!!
أغمضّت جفوني على لهيب الدمع المنسكب، عادت أنفاسي تتصاعد مُتقطّعة، صوت الرصاص من حولي ما زاد بركاني إلاّ غلياناً.. تمنيت، بكل صدق، أن أمسك بندقية وأشارك في مهرجان الرصاص من حولي، كيف أفعل هذا؟ ولمَ؟
بكل بساطة ناري كانت تطغى على العقل والمنطق، كنت قد فقدت عمّي الذي راح ضحية رصاصة، حين آثر أن يتلقى الطلقة الأولى قبل أن يراها تخترق قريته، وها هو شهيد مع مجموعة من أبناء قريتي.
تلك التفاصيل وغيرها لم تجعلني حينذاك أفكّر إلاّ في ثأري، وحق تلك الدماء التي تغلغلت في كل شبر من قريتي الصغيرة.
عمي وقع وفتح صدره لأولئك، ولكن.. ماذا فعل طفل بسنواته الخمس حتى تُقتل عائلته أمامه ومن ثمة يُقطع الثأر.. وكيف يكون؟
صدقاً الموضوع لم يكن محض كلام، كان تفكيري جنونياً حينذاك، فقد فقدت صوابي من هول ما حدث، لكن فيما بعد حين انقضى العزاء وعدت أقرأ المشهد وأتذكّر ما كان يشغلني صُدمت.
كيف وصل بي الحال إلى هذا المكان؟
أنا فكّرت بالثأر!
ممّن أثأر؟ أأعود لأثكل قلباً ونعيد سيناريو الدم واليتم لعائلة أخرى، ونفتح الصراع الأبدي لحقٍّ سيكون متناقلاً بين العوائل لتتورط مجموعة أطراف ونغدو في حالة قتل مستمرة ونُفني بعضنا البعض!؟
أهذه هي الحياة؟! أهذا هو المنطق؟!
بعيداً عن الكلام المُنمّق وعن أني شخص قد فقد وجُرح، موضوع (التفكير العقلاني) قد يكون صعباً للوهلة الأولى وعند تلقي المُصيبة، ولكن الواقع الذي نعيشه والإنسانية التي نتمثّلها لا تقتضي السير بمنهج الدم والسفك المستمر.
وكأي نص يحتاج علامات ترقيم ونقطة في آخره تُعلن النهاية الحتمية، لنبدأ بصفحة جديدة ومضمون مختلف، كذلك واقعنا في شتّى المجالات لا يحتاج إلى حشو درامي وافتعال أحداث تُطيل علينا العذاب ولا نصل إلى نهاية، وقد نموت قبل أن نبلغ النهاية السعيدة بانتصار الخير على الشر.
كل ماهو مطلوب ليس التنازل أو إغفال حقوقنا، بل النظر بطريقة واقعية عقلانية تضمن مصلحتنا الشخصية بما لا يتعارض مع المصلحة العامة لعلّنا نصلُ إلى برّ الأمان.