الحـريـة… الشـرط الضـروري لصحـافـة حيّـة

حسين خليفة:

الحرية بمفهومها العام فضفاضة ولا حدود لها، كما الحب تماماً، لكن أبسط وأدق ما يُقال هو القول الشائع: تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين! يصبح الموضوع بحاجة إلى اتفاق، إلى مقايضات تنتقص من الحرية بمفهومها المطلق، مقايضات لا بدّ منها.

إذاً، لا حرية بالمفهوم الشامل المُطلق، هناك حرية مُحدّدة بسقف القوانين القابلة للتعديل والموضوعة من قبل سلطات مُنتخبة وبموجب دستور تُقرّه أغلبية الناس، وتُعدّله هيئات مُنتخبة بشكل فعلي حين يجب وحيث يجب، وهناك فوضى جميلة لكنها يمكن أن تصبح مُدمّرة في لحظة.

هذه الضوابط الضرورية للحرية هي التي يلعب بها الطغاة والمستبدون ليفصِّلوا برلمانات ودساتير وقوانين على مقاسهم، ويُلغوا بذلك المجتمع والمنظمات والجمعيات والأحزاب سوى ما قام الطاغية بتشكيلها ورعايتها لتلعب في الحيّز الضيّق المتاح سعيدة بالفتات الذي يرميه لها.

التباسٌ هائل يصبح فيه الصحفي في بلدان كثيرة مبتلاة بأنظمة استبدادية من هذا النمط، فهو أمام خيارين بائسين، إمّا أن يدخل مع القطيع المُدجّن ويكتب عن مواسم الشوندر والكوسا وازدحام وسائل النقل الداخلي وهشاشة العظام والوقاية من الأمراض الوبائية والخبيثة وغيرها من مواضيع مدرجة في الحيّز المُتاح ولا تُقدّم أو تؤخّر في شيء، وإمّا أن يكتب عن الفساد الكبير والحماية التي تؤمّن لحاشية السلطان وعائلته وأقاربه وعسسه ليتحكّموا برقاب البشر، وعن غياب الحريات المرتبط عضوياً بتفشي الفساد والرشوة والمحسوبيات، فيصبح تحت الأرض قتيلاً أو سجيناً، ولديه خيار ثالث: أن يترك البلاد إلى منفىً قاسٍ رغم فُرص الكتابة المُتاحة فيه، وهو خيار مُكلفٌ وغير مؤمّن للجميع.

حرية الصحافة هي جزء ومؤشّر للحرية بشكل عام، فحيث يعاني الصحفيون من التضييق والحصار والسجن والتعذيب والتصفية لا يمكن أن يكون هناك مناخ حريات عامة صحي ومنفتح، وحيث تُتاح للصحافة هوامش واسعة لتمارس دورها كـ(سلطة رابعة) دون سجون ونفي وتصفيات، تكون الحريات العامة مصونة يحميها القانون ويُحدّد سقفها، وأعيد: يحميها قانون مُقرّ من قبل هيئات مُنتَخَبَة انتخاباً حراً وبموجب دستور يُقرّه الشعب بشكل فعلي عبر ممثليه الحقيقيين.

ما تفعله الأنظمة المعادية للحرية أنها تسنُّ قوانين وتُقِرُّ دساتير موضوعة ومفروضة من قبلها، وتصنع هيئات تشريعية بانتخابات صورية طبعاً، وتصبح حدود حريات الصحفيين هي الحدود التي وضعها الحاكم لضمان استمرار حكمه القائم على تحالف القمع والفساد.

حتى في البلدان الديمقراطية العريقة، البلدان التي أشرق عليها عصر الأنوار، لا توجد حريات كاملة للصحافة، لكن القيود أقلّ، تُحدّدها حكومات الظلّ، أو الحكومات العميقة، وتتمحور بشكل أساسي على منع كل ما يحمل شبهة العنصرية أو العنف أو (معاداة السامية)، وهذه الأخيرة مُصنّعة خصيصاً لإسكات الأصوات المعادية للصهيونية، وهي وصمة عار في جبين الديمقراطية الغربية التي تُعتبر أكمل أشكال الديمقراطيات حتى تاريخه.

في زمن التغول الإعلامي لمجموعات رأسمالية، لا توجد حريات مُطلقة للصحفي في البلاد الديمقراطية، هناك هامش مقبول شرط أن لا تقترب من المُمَوّل سواء كان احتكاراً أو دولة نفطية أو حزباً أو ثرياً، لكن تبقى هي الشكل الأكثر انفتاحاً على حرية التعبير، مثل بعض الصحف والمواقع الإلكترونية المهمة المُمَوّلة خليجياً، فهي تلعب اللعبة الديمقراطية بمهنية وحرفية، تُتيح فيها لمختلف الآراء والمدارس الفكرية أن تنشر وتنتشر عبر صفحاتها بشرط وحيد هو عدم الاقتراب من المُمَوّل.

يبقى القول إن السواد الأكبر من الناس، الفقراء والمُهمّشين الذين يُمضون عمرهم في اللحاق بلقمة العيش، محرومون سلفاً من ممارسة الحرية، فالصحافة الناطقة باسمهم، إن وُجِدَتْ، فقيرة مثلهم، ولا تملك إمكانات المنافسة في زمن الإمبراطوريات الإعلامية العملاقة، وهم أنفسهم لا وقت لديهم للقراءة أو ممارسة حقوق التعبير، لكن هذا ليس قاعدة، فشوارع باريس وبرلين وأوتاوا ولندن، والمراكز الرأسمالية الأخرى، تشهد دائماً احتجاجات الفقراء على أوضاعهم، ويصل صوتهم إلى العالم، ويفرضون على الأنظمة الرأسمالية تنازلات تُعيد إليهم بعض حقوقهم، وهناك صحف تحمل أوجاعهم وهمومهم وأحلامهم بعالم أكثر عدالة، وإن كانت متواضعة شكلاً، لكن مضمونها غني ومهم ويُشكّل مادة للدراسة حتى عند (الأعداء الطبقيين).

إنها الديمقراطية، المدخل الأول والضروري لصحافة حرّة، ولا شيء سواها، إنها (الديمقراطية أولاً الديمقراطية دائماً) على حدّ تعبير الراحل الكبير عبد الرحمن منيف.

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024