مهزلة الانتخابات البلدية التركية الأخيرة

د. صياح عزام:

شبهات كثيرة من الشك حامت حول الانتخابات البلدية التركية الأخيرة، وأدت بالفعل إلى تحويل الديمقراطية التي يتغنى بها أردوغان إلى مهزلة وأضحوكة، والأدلة على ذلك كثيرة، يأتي في مقدمتها:

تأخر إعلان النتائج في مدينة اسطنبول لمدة عشرين يوماً، علماً بأن مرشح الحزب الجمهوري المعارض أكرم إمام أوغلو في هذه المدينة، ظهر فوزه بشكل غير رسمي منذ اللحظات الأولى لبدء فرز النتائج، على مرشح حزب العدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق بن علي يلديريم، وهي المرة الأولى التي يتأخر فيها صدور النتائج الرسمية لمثل هذه الفترة الطويلة، وقد كانت اعتراضات حزب العدالة والتنمية على نتائج مدينة اسطنبول متعددة ومضحكة.

  • في المرة الأولى اعترض على ما سمّي بالأصوات الملغاة، فأُعيد احتسابها.
  • وفي المرة الثانية على الأخطاء في العد في العديد من دوائر اسطنبول، فأُعيد العد أيضاً.
  • تلا ذلك المطالبة بإعادة العد في دوائر إضافية وكان له ذلك.
  • ولمّا فشل في كل هذا الاعتراضات، لجأ حزب العدالة والتنمية إلى تقديم ما أسماه (اعتراضاً استثنائياً)، وذلك بتاريخ 16/4/2019 يُطالب فيه بإعادة الانتخابات في اسطنبول كلها، وفقاً لما قاله نائب رئيس الحزب.

فإذا كانت الاعتراضات المتعلقة بإعادة احتساب الأصوات والعدّ بمثابة فضيحة كاملة، فإن موافقة اللجنة العليا للانتخابات على هذا الاعتراض الاستثنائي، أي إعادة انتخابات اسطنبول بالكامل ستشكل سابقة خطيرة وفضيحة مزلزلة للديمقراطية التي يفتخر بها أردوغان وحزبه، والمليئة بالشوائب والعيوب أساساً.

جدير بالذكر أن اللجنة العليا للانتخابات أكدت من خلال ممارساتها العملية أنها متواطئة مع حزب العدالة وتعمل لصالحه، وقد تعرضت أثناء عملها للكثير من اللغط والانتقاد.

إن الشكوك في جدية حزب العدالة والتنمية لجهة امتثاله لصندوق الاقتراع، تزامنت مع تصريح لأردوغان قال فيه: إن تقدم طرف على آخر بفارق 10-15 ألف صوت لا يعطيه الحق بادعاء الانتصار، وذلك رداً على مطالبة (إمام أوغلو) للجنة العليا للانتخابات بإعلان فوزه رسمياً. كلام أردوغان هذا يتناقض كلياً مع تصريح سابق له بأن صندوق الاقتراع هو الحكم، مع قيام اللجنة العليا للانتخابات بإعلان فوز بعض مرشحي حزب العدالة على خصومهم بفارق لا يتعدى العشرات أو أقل من الأصوات، بينما فارق الـ15 ألف صوت لم يُعجب أردوغان!

  • أيضاً هناك سلبية خطيرة جداً ظهرت في الانتخابات البلدية الجديدة، تمثلت في ضغوط حكومة أردوغان على اللجنة العليا للانتخابات، لإجبارها على عدم الاعتراف بفوز رؤساء البلديات في المناطق الكردية، الذين كانوا قد عُزلوا قبل انقلاب عام 2016 بتهمة الإرهاب والتعامل مع حزب العمال الكردستاني، والاعتراف بفوز الخاسرين من حزب العدالة والتنمية، أو تعيين آخرين بديلاً عنهم.. والسؤال هنا: لماذا قبلت اللجنة ترشيحهم في الأساس؟!

إذاً، يتضح أن تصريحات أردوغان التي جئنا على ذكرها من حيث تناقضها، ومحاولاته المستميتة للانقلاب على نتائج الانتخابات البلدية في أكثر من محافظة ومدينة منذ الساعات الأولى لبدء فرز الأصوات، وعزل رؤساء بلديات أكراد فائزين، كل ذلك أدى إلى تشويه مصداقية العملية الديمقراطية التي يتغنى بها أردوغان أمام أوربا والعالم، الأمر الذي دفع عبد الله غول، الرئيس التركي السابق، ورفيق درب أردوغان في الحزب، إلى التحذير مما يجري قائلاً: (من غير المعقول، ومن غير المقبول، أن نمارس ضد غيرنا الممارسات نفسها التي مورست ضدنا في زمن حكم العلمانيين والعسكر. ويجب إبقاء تركيا بعيدة عن شبهات الشك في مصداقية وشفافية الانتخابات). بالطبع إن مثل هذا التصريح يشير بوضوح إلى عمليات عدم الالتزام بصندوق الاقتراع، وإلى محاولات حزب العدالة فرض مرشحين بالقوة وبأساليب ملتوية، مع العلم بأن تصريح غول هذا جاء بلهجة خجولة وبنبرة خفيفة.

على أي حال، تشير نتائج خسارة حزب العدالة والتنمية في كبريات المدن التركية مثل اسطنبول وغيرها إلى أن غالبية الأتراك غير راضين عن نهج أردوغان وحزبه، ويترتب على ذلك تداعيات، في مقدمتها تردّي الوضع الاقتصادي وارتفاع نسبة البطالة، خاصة وسط الشباب والشابات ليصل إلى نحو 27%، وتحويل اقتصاد تركيا إلى شركة عائلية مساهمة، وتراجع القدرة الشرائية للمواطن وغير ذلك، مثل هذه التداعيات وغيرها، وخاصة زج تركيا في معارك خارجية تخدم تطلعات أردوغان الشخصية، كل ذلك أغضب الشعب التركي، وبطبيعة الحال إن هذه الأوضاع لا يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية، وستحمل الأيام القادمة تطورات وتداعيات ومفاجآت لافتة، حسبما يقدّر كثير من المحللين السياسيين المتابعين للوضع في تركيا.

العدد 1102 - 03/4/2024