الفوضى غير الخلاّقة وضياع المواطن السوري

ريم الحسين: 

ضاع المواطن السّوري بين سندان المؤامرة والعقوبات والحصار ومطرقة الفساد والجشع وتجّار الأزمات والحيتان.

وترى هذا الضّياع بصيغته المثلى في ردود الأفعال، فمنهم من عزا الأوضاع الاقتصاديّة المترديّة، الّتي لم تشهدها البلاد في أكثر سنوات الحرب دمويّة، إلى تبعات الحرب وزيادة الضّغوط والعقوبات علينا وعلى الحلفاء، مستشهداً بالحصار الاقتصاديّ الخانق وآخرها ما سُمّي (قانون سيزر)، والبعض رأى أنّها تعود إلى نيّة الحكومة فرض آليّات جديدة في السّوق، لرفع الدّعم عن بعض السّلع والاتجاه نحو الخصخصة وترك حريّة العرض والطّلب للسوق، وأنّها ليست لمصلحة الشّعب السّوري وإنّما لمصلحة بعض المستنفعين والتجّار الكبار، مبرّرين تصوّراتهم بطريقة الفوضى الّتي اعتاد عليها المواطن قبل رفع سعر أيّ سلعة أساسيّة وضروريّة، دون زيادة في الرّواتب والأجور لتغطّي هذا الارتفاع في الأسعار، إضافة إلى أن العقوبات لم تشمل الأغذية والمحروقات.

 فيما وقع الأكثرية في شرك الضّياع بين الاتجاهين لا يدرون من على حقّ، وربما رأى آخرون أن هذه الفوضى سببها الرّأيان، وربما هناك آراء أخرى لم تظهر على السّطح بعد لتأويل ما يحدث.

وبالرغم من نزول العديد من المسؤولين عن عروشهم، وتصريحاتهم هنا وهناك بشكل غير رسميّ عن أسباب هذه الأزمات المتلاحقة، لكن على ما يبدو ليس هناك رؤية بتفصيل شفّاف يُغذّي أسئلة المواطن المحقّة، فحجّة المسؤول الجاهزة هي الحرب والعقوبات، ولكن عندما تبدأ الأسئلة تدور في فلك حرج لا نجد أيّ تبرير أو تصريح. فمثلاً بعد تصريح رئيس الحكومة لأحد المواقع الإلكترونيّة عن أن مصر تمنع مرور ناقلات النّفط عن طريق قناة السّويس بسبب خوفها من العقوبات، وربما يغمز بشكل غير مباشر لمساهمة مصر في الحصار، يأتي السّفير المصري أيضاً بشكل غير مباشر ويصرّح في اجتماع مع بعض الصّناعيين في مدينة حلب أن مصر لا تمنع مرور ناقلات النّفط الإيرانيّة إلى سورية. وبعد ذلك صدر بيان رسمي من رئيس هيئة القناة يؤكد كلام هذا السفير، ولم يصدر بعد ذلك أيّ تصريح رسميّ أو غير رسميّ سوريّ تعقيباً على ما جرى تداوله من تصريحات باستثناء تصريح من شخصيّة إيرانيّة تؤكّد كلام رئيس الحكومة. وهنا يتساءل المتابع للحدث: ما دور الحلفاء فيما يحدث، ولدينا حليفان من أقوى الدّول في تصدير النّفط ومشتقاته؟ وماذا عن طرق أخرى كالعراق أو لبنان؟

ولماذا فجأة، لتخفيف حدّة أزمة البنزين، أصبح بالإمكان أن تأتي الحكومة ببنزين ٩٥ أوكتان بسعر ٦٠٠ ليرة سوريّة للّتر الواحد؟! ما هذه المفارقة العجيبة؟ وكيف يتوفّر البنزين في السّوق السّوداء لمن يدفع أكثر؟! وهذا دليل آخر لأصحاب وجهة نظر مؤامرة الحكومة، إذ إن المشكلة هنا ليست في النّدرة على ما يبدو.

ولرفع سعر البنزين عن دول الجوار أهميّة في منع التّهريب، ولكن هل يعقل أن يكون متوسط دخل الفرد في هذه الدّول عدّة أضعاف عن دخل المواطن السّوري وتكون الأسعار قريبة! وهنا تجدر أهمية رفع دّخل الأفراد، فنكون أمام وضع حدّ لمشكلات التّهريب والغلاء وارتفاع الأسعار.

ما بين المؤامرتين يعيش المواطن السّوري في تخبّط واضح وتذمّر وتعبير غاضب عن نفاد الصّبر، باستثناء بعض المنتفعين والمستنفعين وأبواق الحكومة وبعض المغرّر بهم عن طريق إدخال ملف الشّهداء في كل أزمة، ليكسبوا عطف الجماهير والمتابعين، وربما عن طيب نيّة لبّث الرّوح الإيجابيّة لدى النّاس ودعوة للتفاؤل بأنّ القادم أفضل، وهو ما لا يراه آخرون قريباً بعد كلّ هذا الخراب.

ولتلتمس سحب ثقة الشّعب من مسؤوليه ما عليك إلّا أن تتابع ردود الأفعال على أيّ تصرّف أو تصريح حكوميّ، فعلى سبيل المثال قام أحد المديرين بنشر صورة له وهو على دراجة هوائيّة، الغرض منها أن تكون بادرة حسن نيّة للمواطنين نحو المساعدة في حلّ أزمة البنزين ليحتذوا بهذه الأعمال، فما كان من أكثريّة المواطنين إلّا أن بُرمجت عقولهم سلفاً بعدم صدقه وأنّها تمثيليّة وما إلى ذلك من تعليقات الازدراء!

فالمسؤول موضع شكّ حتّى يثبت العكس، لكن يبدو أنّه ما لم يعاقَب فاسد واحد على العلن فلن يثبت العكس على الإطلاق.

بينما انتشرت صور حسّ الفكاهة والصّمود لدى الشّعب السّوري، فقد التجأ البعض لتحويل هذا الوضع السّيِّئ إلى مناسبة لحملات اجتماعيّة تطوعيّة، كتوزيع الزهور وبعض الطّعام على طوابير المنتظرين، أو ممّن ينتظرون، فمن لعبة ورق على أسطح السّيارات المركونة لساعات أو (الأراكيل) وغيرها من مظاهر أخذت طابعاً إيجابيّاً لدى الآخرين وزرعت البسمة على الوجوه الكاظمة للغيظ والمكفهرّة.

هذه الفوضى غير الخلّاقة صنيعة الحرب بالدّرجة الأولى، وأدواتها من المرتزقة والإرهابيين إلى الفاسدين تحت ذريعة الوطنيّة بالدّرجة الثّانية، ولا يعوّل إلّا على وعي المواطن السّوري الّذي تحدّى سنوات الحرب الطّويلة أن تلهمه سورية وطننا الرّائع الجميل الصّبر والسّلوان، وأن يلفظ الأشرار والشّياطين مهما كان لبوسهم الّذي يرتدونه، ومهما كان قناعهم لن يخفى على شعب عريق أن يمزّقه ويعيد البهاء إلى أمّ الحضارة.

ربما عند نشر هذا المقال قد يكون هناك حلحلة لهذه الأزمة وغيرها، وخصوصاً بعد توفّر البنزين بالسّعر الّذي خطّط له سابقاً على ما يبدو، وهذا ما نرجوه: كلّ الاستقرار والأمان لوطننا الحبيب.

المجد للشّهداء، حماة الدّيار عليكم سلام.

العدد 1102 - 03/4/2024