أضواء على أرمينيا التاريخية

سليمان أمين:

أرمينيا التاريخية هي بلد الجبال والينابيع والبحيرات والأنهار، ولعل جبال آرارات الأرمنية – حاضنة المملكة الأورارتية – من أشهر جبال الشرق القديم، بل والعالم القديم بأسره. وأشهر بحيرات أرمينيا بحيرة فان وعلى شواطئها الشرقية مدينة فان وبحيرة سيفان، وبحيرة أورميا، إضافة إلى عدد من البحيرات الجبلية الصغيرة. وأهم أنهار أرمينيا نهر أراكس الذي ينبع من جبل بنغول داغ، وينضم إلى نهر الكورة ليصبّا معاً في بحر قزوين. ونهر جوروخ الذي ينبع من جوار مدينة بيبورت، ويصب في البحر الأسود. أما نهر الفرات فينبع من قرية قزيل قليسا على بعد 40 كم شمال مدينة أرضروم، ويجري مسافة 2800 كم ليصب في شط العرب، وكذلك نهر الدجلة الذي ينبع من جبال طوروس جنوب بحيرة فان، ويسير مسافة 2000 كم، باتجاه شط العرب. وهناك أنهار هاليس وإيريس وآليس التي تصب في البحر الأسود، وأيضاً سيحون وجيحون والعديد من الجداول التي تنبع من جبال طوروس وأمانوس وتصب في البحر الأبيض المتوسط.

ومن خلال دراسة انهار أرمينيا من منابعها إلى مصباتها مروراً بمجاريها، نلاحظ أن تلك الأنهار تعتبر بمثابة الشرايين الممتدة من قلب أرمينيا إلى أهم مناطق الشرق القديم النابضة بالحضارة، فتلك الأنهار وبإشراف من جبال آرارات العالية تصل إلى جهات أربع متباعدة هي: بحر قزوين، والبحر الأسود، والخليج العربي، والبحر المتوسط، ولعل أهم حضارات الشرق القديم قد ازدهرت على ضفاف الفرات ودجلة وسيحون وجيحون، وبالتالي فنحن في هذا الصدد لا نتحدث عن طرق تجارة أو مواصلات أو محطات ترانزيت بين أرمينيا القديمة ومناطق الشرق القديم، وإنما عن اتصال حضاري طبيعي أمّنته أولاً الجغرافيا الأرمنية في المنطقة، ثم العناصر الحضارية المشتركة بين الشعب الأرمني القديم وسائر شعوب منطقة الشرق. وهذه العناصر الحضارية المشتركة موغلة في القدم، وتعود إلى العصر الحجري بمراحله الثلاث، وهنا نرصد دور أرمينيا القديمة في تطور البشرية خلال عصور ما قبل التاريخ، في حقبة غزيرة بالمعطيات امتدت قرابة مليون عام قبل ميلاد السيد المسيح، وأسست لعلاقة حضارية واضحة بين أرمينيا ودول الشرق القديم، ونعدد سلسلة المكتشفات في أرمينيا ما قبل التاريخ والتي نعتبرها أدلة حضارية كبيرة على ارتباط أرمينيا القديمة بالمناطق الحضارية القليلة في العالم التي عرفت الإنسان القديم وتطوره بأدواته وأفكاره، كسوريا وفلسطين ولبنان والأردن والعراق ومصر وشمال إفريقيا وإسبانيا وفرنسا وإنكلترا والهند والصين.

وبخصوص أصل الشعب الأرمني، فالأرمن شعب هندو-أوروبي ينتمي إلى إحدى مجموعتين، عاشت الأولى منهما في قارة آسيا على تخوم الهند، وفي بلاد فارس (إيران) وأرمينيا وبعض مناطق آسيا الصغرى (تركيا)، ثم انتشرت شمالاً باتجاه القفقاس وجورجيا. وهذا الرأي تؤيده التقاليد الشعبية الأرمنية المتجسدة في أسطورة (بيل وهاييك) التي تبرز كأسطورة تبقي الشعب الأرمني في محيطه الآسيوي الشرقي، وتربط تاريخه بتاريخ بابل والشرق، مع التأكيد على ارتباط الشعب الأرمني بشعب بابل وآشور نظراً للمعطيات الغزيرة التي سجلتها الأحداث بين الطرفين.

أما المجموعة الهندوأروربية الثانية فقد عاشت في قارة أوربا لتشكّل شعوب الجرمان والأنكلوساكسون، ويرجّح المؤرخان اليونانيان هيرودوت (485 – 425 ق.م) وإسترابون (63 ق.م – 20 م) أن الأرمن من المجموعة الهندوأوروبية التي استقرت في أوربا، ثم يتفقان على أن الأرمن ومعهم الفريجيون والتراقيون عادوا من أوربا إلى آسيا مغادرين البلقان عبر البوسفور والدردنيل في القرن الثاني عشر ق.م، واستقروا جميعاً في فريجيا (غرب تركيا حالياً)، ثم انفصل الأرمن عن هذين الشعبين وتوغلوا في الأناضول شرقاًوحتى أرمينيا في القرن السابع ق.م، وهذا ما تذهب إليه النظريات الحديثة في أصل الأرمن، وترى تلك النظريات أن الأمة الأرمنية تشكلت منذ وصول الأرمن إلى الأراضي الواقعة بين نهر هاليس ونهري الدجلة والفرات، وهذه المنطقة المسماة بـ هاياسا هي الجزء الشرقي من الإمبراطورية الحثية، وفيما بعد المرتفعات الشمالية لأرمينيا، ثم التقى الأرمن بالقبائل الحورية غربي بحيرة فان، وقد أدى التمازج الأرمني الأورارتي والحثي والحوري والميتاني إلى ظهور الشعب الأرمني، بعد بسط نفوذه على تلك القبائل وتشكيله أغلبية سكانية في المنطقة.

إن جل المؤلفات الخاصة بتاريخ أرمينيا – العربية منها والأجنبية وخاصة المراجع الأكاديمية – لا يقدم أرمينيا للدارس أو القارئ كوحدة تاريخية وأثرية ولا حتى جغرافيّة. فهناك تقطيع لأوصال الوحدة التاريخية الجغرافية لأرمينيا، وهذا التقطيع ملموس من خلال المراجع الأكاديمية أولاً، إذ لا توجد إشارات موحدة إلى المكونات الحضارية (التاريخية والجغرافية والأثرية) لأرمينيا، ولعله من الظلم الذي لحق بتاريخ أرمينيا الحقيقي الذي استُهدف من قبل الغزاة كسائر بلدان الشرق القديم. ويتذكر السوريون من أصول أرمنية، في هذه الأيام، الذكرى المئوية للمجزرة الأرمنية وعمليات الابادة والتهجير العرقي التي تعرضوا لها قبل أكثر من قرن في تركيا، فكانت سوريا لهم ملجأً ووطن استقرار، وقد اندمجوا في المجتمع السوري وأسهموا في بناء سورية وازدهارها خلال قرن مضى، وقد تركّز وجودهم الأكبر في حلب ومنطقة الجزيرة ودمشق واللاذقية، فأصبحوا جزءاً من سورية، وتقاسموا مع السوريين المعاناة من الحرب الارهابية التي فرضت على سورية، واستهدفت وحدة عناصرها الحضارية وهويتها. وقبل الأحداث المشؤومة كان عدد الأرمن السوريين مئة ألف، إلا أن هذا العدد تناقص بشكل كبير خلال السنوات الثماني الماضية، وذلك بعد النزوح الداخلي، واللجوء إلى دول الجوار، والهجرات الخارجية.

العدد 1104 - 24/4/2024