هل الإنسـان كائن ثقـافي؟

أحمد علي هلال:

في حاجتنا إلى القول بالبناء الثقافي ثمة منطلقات لا تنفك تشكل مرجعيات للبناء، ليس أقلها جدلية العام والخاص، أو أن ذلك البناء سيستدعي غير دور لمثقف حقيقي، ينشد التوازن بين مكونات الثقافة والحاجة إليها، انطلاقاً من وعي مؤسس على فلسفة الحاجة العليا، هذا في التصور الأرقى، ولكن بما يعادله من الواقع لابد من إعادة تشكل فهم مختلف لهذه الحاجة، بعيداً عن عموميتها، من أجل خصوصية ترقى إلى الوعي الجمعي ترجمة وأسلوباً وطريقة، بل وخطاب طريقة، فقياساً على ما ذهب إليه علماء الاجتماع والفلاسفة والباحثون الاجتماعيون من أن الإنسان كائن مدني بالطبع، نتساءل في هذا السياق هل الإنسان كائن ثقافي بالضرورة؟

ستكون الأجوبة هنا بمثابة الذهاب إلى مشروع هذه الثقافة وماهيتها قبل أن تصبح حقيقة تُمارس في الواقع، لتصبح أسلوب حياة، إذ إن الثقافة هنا هي ذلك الكم التراكمي الذي يستدعي أنساقه المعرفية، ليترجم النظرية إلى واقع ويماهي بين الوعي والواقع دون أن يكون الواقع ذاته انعكاساً فقط لفرضية أو تلك، إلا بقدر ما نبحث فيه أي في الواقع عن جدلية التماثل والاختلاف، والبحث عن المشترك الذي يعني علاقة البشر ببعضهم بعضاً كي يتم الارتقاء إلى الأفكار بميثاقها الواقعي/ الجدلي، وبمدى ما تنفتح عليه من فقه التغيير لا التفسير فحسب، ورؤية المتغيرات بعين فاحصة وبعقل طليق، ليصبح فهم الثابت هنا متسعاً حدَّ انفتاح الرؤيا التي تتغذى بقوة الخطاب، المستند إلى منهج أكثر قابلية ومرونة لهذه المتغيرات، كل ذلك السياق سيعني أهمية الثقافة، بعيداً عن كثافة دلالاتها القريبة أو البعيدة، وقريباً من أن تكون الثقافة بوصفها عقداً جديداً ومتجدداً مع الحياة، كأسلوب وطريقة أكثر منها ثراء الحيز النظري، ذلك أن الميثاق الواقعي/ العقلاني بأهمية الثقافة، ما يجعل منها أداة للبناء لا للهدم، إلا ما يعني الأنماط السائدة والمتكلسة، ومن هنا ندرك أن جدلية البناء الثقافي لا تستقيم إلا بوجود مثقفين عضويين ليس بالمعنى (الغرامشي) فحسب، وإنما بالمعنى الذي تستدعيه التحديات الكثيفة في راهننا الفكري والثقافي والاجتماعي والتربوي، ذلك ما يحايث نزوعاً أصيلاً وجمعياً للتأسيس الثقافي، وبالقدرة أكثر على الابتعاد عن جملة من الخطابات الممجوجة التي تستهلك في الثقافة ولا تستثمر بها، فيلتبس مفهوم الثقافة هنا ما بين ثقافة نبيلة وسواها، والأدل أيضاً في هذا السياق أن القول عن إنسان الثقافة سيكتمل بالشرط الإنساني، فضلاً عن بقية الشروط الأخرى، أي بمعنى تأهيل هذا الإنسان معرفياً ليستطيع ممارسة أفعال ثقافية لا تركن إلى الظرفية، بل تعبرها باتجاه أفق مستقبلي ينهض بأسئلة الواقع وتحدياته إلى مستوى صوغ أسئلة جديدة تليق بهذا الواقع، وهنا علينا أن نتساءل في صيرورات هذا الكم التراكمي للثقافة مبنى ومعنى، هل أنتجت ضرورتها مثقفاً بامتياز، يستطيع أن يكون صوت الآخرين وصولاً إلى صوته الخاص، بالمعنى الذي يجعله هاجساً بأسئلة القيم ومنظوماتها التي تتطلب في كل مرحلة انفتاحاً في البنى الذهنية، بل وانفتاحاً عقلانياً على الحاجة أولاً قبل الذهاب إلى استحقاقات هذه الحاجة، لا سيما في مشهدنا الثقافي الذي دائماً ما تعلق عليه الآمال للنهوض والاستنهاض والتجاوز والاستشراف، حتى تأتي أجوبة تبدو في ظاهرها حقيقة، كالقول مثلاً إن ثقافتنا ليست بخير، كما أن إنساننا ليس بخير، وهي في حقيقتها تضمر مواقف نقدية ليس من هذا الإنسان أو ذاك، بقدر ما هي الطريقة المثلى في الفن والأدب على سبيل المثال، للارتقاء به وبآماله وأحلامه وهمومه؟.

إذ لا يختلف اثنان على القول إن الثقافة بجميع فعالياتها، كما خطابتها من أنها الصورة الأنصع لحضارة الروح والكلمة، والتزاوج الخلاق بينهما، فيما ينفتح على المضمون والموضوع والشكل، يلفت (غوته) إلى القول: (الناس كلهم يرون الموضوع، أما المضمون فلا يجده إلا من أراد أن يضيف شيئاً إليه، ثم إن الشكل مختبئ عن الغالبية، ويبقى عنهم سراً مستوراً، يوجد فنانون لاحقون أدعياء غير متخصصين، وانتهازيون فالأدعياء يمارسون الفن للتسلية والآخرون للاستفادة).

ما يذهب إليه غوته – الفيلسوف- في أفكاره وتأملاته بخصوص الأبعاد الخفية للثقافة، لن يبتعد كثيراً عن أهمية الخطاب الثقافي وكيف يتوجه هذا الخطاب ولمن وكيف، أي بتلك الكيفيات المحتملة يُشتق مفهوم المثقف الذي يحمل في روحه وتوقه خلاصة المضمون، الذي لن يتحول إلى مفهوم أخلاقي إذا لم تُفهم فلسفته على النحو الذي يُقاس فيه الفعل كامتحان ناجز للقول، لكن الثقافة في مساراتها المتعددة ودروبها الكثيرة، ومسوياتها المتعددة هي المتطيرة من الاختزال والتبسيط التقني، إلى ما يحاكي الوجدان الجمعي، يذهب إلى ترجمته بالممكن الواقعي/ الجمالي، بلغة ثرية أي مختلفة، تتضافر مفردات خطابها لتشكل أطياف ذلك الوعي المؤسس، إذاً ففي الحاجة إلى المثقف المنتج للثقافة، ثمة ضرورة تاريخية ومعرفية بآن لأن استدعاءه في كل زمن وفي كل مرحلة بات يمثل خطاب الضرورة والخلاص أكثر منه بالتبسيط الذي يجعل من الثقافة محض ترف هنا أوهناك، ومحض فائض يقوم على تجميل الواقع بمسوغات شتى، ذلك أن التثقيف في صوره البنائية نزوع إلى جعل الفطرة الأولى مادة تؤسس عليها أفعال الثقافة، وإلا ما معنى (كم) من القصائد، التي أنتجت أثناء الحرب، هل تظل محض استجابة عاطفية أم تتحول إلى أفعال الاستشراف والنهوض؟ هذا يعني من جديد النزعة (إلى النوع) تلك الفترة الأصيلة التي ستصبح في مقام الضرورة التاريخية والإنسانية، التي تأخذنا إلى تجليات الروح وتدوين الكينونة ومعها يصح قولنا ببناة الروح الذين يرقون في أدائهم إلى استحقاقات الواقع، وما يبقى للانفعال يذهب وتظل اللغة الحاملة للرؤيا، حارسة الوجود مستعاداً بها ومؤسساً على ثقافة الحياة ومعاندة الموت، وما يصدق على الشعر يصدق على غيره من الفنون دون الوقوع في أسر الاستقراء ونتائجه الملتبسة، البناء الثقافي بناء حضاري بامتياز دون انفكاكه عن الأبنية الأخرى.

العدد 1104 - 24/4/2024