الحقائق القاتلة عن إقصاء المختصين في المؤسسات الحكومة

سليمان أمين:

انطلق مشروع الإصلاح الإداري قبل حوالي ثلاثة أعوام، وحتى تاريخه فإنه ما زال حبراً على ورق ومادةً إعلامية تخديرية متجددة للرفع من شأن بعض ضيوف البرامج وصفحات الجرائد، وإيهام المواطن أن عجلة الاصلاح تسير على السكّة الوطنية الصحيحة، رغم أنها لم تتطرق بعدُ حكومياً إلى أهم المواضيع التي تقض مضجع المصلحة العامة والبلاد، ألا وهي مواضيع التخصصات والشهادات العلمية، فالمراقب الآن ومنذ سنوات لساحة العمل الحكومي والأكاديمي يلاحظ وجود نهج حكومي بامتياز يعمل على التصفية المهنية لأصحاب الشهادات العليا، والاستعاضة عنهم بأنصاف مختصين أو حائزين على شهادات غير نظامية، فمن يخدم هذا النهج؟! ولصالح من يتم اقتلاع الأساسات العلمية من جذورها في مؤسسات الدولة؟!

لقد أضحت شهادات الدكتوراه الحقيقية وبالاً على أصحابها ضمن بيئة حكومية لم تعد تعرف المنافسة الشريفة… هذه الشهادات حين تكون نظامية ومحققة للشروط العلمية والقانونية الكاملة حسب قوانين البعثات العلمية ومجلس التعليم العالي، فقد تودي بصاحبها إلى التهلكة الوظيفية ضمن البيئة الحكومية المذكورة، وذلك نزولاً عند رغبة الانتهازيين والمتسلقين للحصول على ما لا يحق لهم أن يملكوه من المزايا الوظيفية، وبالتالي فسياسة هؤلاء تتلخص في وضع العراقيل في وجوه أصحاب الشهادات العليا النظامية واضطهادهم وتشويه سمعتهم بكل الأساليب.

ويلجأ بعض الطامحين بمناصب ومراتب عليا في الدولة إلى الحصول على شهادات دكتوراه مزورة بمقابل مالي، أو شهادات رخيصة على شكل هدايا من دول مشهورة في هذا المجال كباكستان وكازاخستان ورومانيا، وذلك اختصاراً للمدة الطويلة التي يقضيها الطالب النظامي للحصول على أعلى شهادة علمية… والأمثلة كثيرة لأشخاص اعتباريين شغلوا مناصب علمية وإدارية فائقة الحساسية مثل وزير، معاون وزير، أستاذ جامعي ورئيس لجنة علمية معينة لمدة تقترب من عقدين، مدير عام، معاون مدير عام…إلخ.

فضلاً عن أولئك الذين لا يحملون الشهادات المطلوبة ويوضعون في مسؤوليات علمية تتطلب شهادات عليا تخصصية، ونعتقد أن رئاسة مجلس الوزراء قد أزاحت عن كاهل هؤلاء كل الإحراج عام 2016 بإصدارها لقرار يجيز لمعاون الوزير أو المدير العام وغير ذلك من المسؤوليات الكبرى، أن يشغل تلك المناصب بموجب إجازة جامعية لا أكثر. ولعل ذلك يمثّل مأساة لأصحاب الدكتوراة النظامية من الموفدين، تلك المأساة التي يمكن ملاحظتها بوضوح شديد في أهم مؤسسات الثقافة السورية على سبيل المثال لا الحصر، وهي المديرية العامة للآثار والمتاحف التي سُجّل فيها خلال العقدين الماضيين وحتى تاريخه إزاحة جيل كامل من المتخصصين في التاريخ واللغات القديمة والآثار وعلم الوثائق وعمارة المدن القديمة من حملة الدكتوراه التخصصية النظامية المعدلة من قبل مجلس التعليم العالي، وممن رُصدت تخصصاتهم حسب حاجات الوزارة المذكورة. وقد فاق عدد هؤلاء المتخصصين العشرة، وقد أُزيحوا من أماكن عملهم التي تحتاج إليهم بواسطة المضايقات والعراقيل والتجميد والنقل التعسّفي، كما أُقيل من أُقيل منهم واستقال بعضهم مرغماً، واضطر آخرون للهجرة واللجوء إلى المغامرة القاتلة في ركوب البحر إلى بلاد تحترم الشهادات، بينما ما زال بعضهم يعاني مرارة البطالة القاتلة لتخصصه الذي لا يمكن استثماره إلا في الحقول الحكومية. وكل ذلك بمعرفة رئاسة مجلس الوزراء التي لم تتحرك فيها شعرة للأوضاع التي يعيشونها، هذا فضلاً عن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش التي تغطي حتى الآن على أخطر ملفات الفساد في الآثار والمتاحف من خلال عمل مفتشيها المنحاز مئة بالمئة وبشكل صارخ للمسؤولين عن المخالفات.

ولعل ما يثير الأسف هو حلول الفاشلين وأنصاف المختصين ومنهم راسبون في صفوف الدراسات العليا محل المتخصصين الذين تمت إزاحتهم في المؤسسة المذكورة، فالإدارة العلمية لمؤسسة الآثار والمتاحف حالياً ومنذ سنوات لا يوجد فيها مختص نظامي واحد، فضلاً عن أن بعض هؤلاء كان مطلوباً في السنوات السابقة لجهات جنائية وشرطية بسبب مخالفات ارتكبوها، تغاضى عنها التفتيش. ولعله سؤال نوجهه إلى المنظومة الإدارية المكلّفة بإدارة مؤسسات الدولة في مجلس الوزراء والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، وهي المنظومة المسؤولة عن وجود حالات كهذه ضمن المؤسسات، وهو لماذا لا تُحال الشهادات التي يتقدم بها الموظفون في المؤسسات إلى الجهات المانحة لتلك الشهادات على اختلاف درجاتها للتأكّد منها؟

فجميعنا يعلم أن التأكّد حتى من صحة شهادة البكالوريا على سبيل المثال لا يتطلب أكثر من مراسلة بسيطة مع إدارة الامتحانات في مديرية التربية لكل محافظة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإجازة الجامعية التي توجد تفاصيلها في قسم شؤون الطلاب والامتحانات في رئاسة كل جامعة، أما شهادات الدكتوراه النظامية، فلها مرجعية إدارية وعلمية معروفة وهي مجلس التعليم العالي في وزارة التعليم، ولن يقوم موظف المجلس بجهد كبير لمعرفة أن صاحب الشهادة نظامي أو غير نظامي، وخاصة بالنسبة إلى الشهادات الأجنبية الأكثر رواجاً بين المتسلقين، فشهادة الدكتوراه الأجنبية أو العربية أو المحلية لا يمكن تفعيلها في مؤسسات الدولة دون الحصول على تعديل وظيفي وعلمي في مجلس التعليم العالي، الذي يمنح المتقدم بياناً بمطابقة شهادته لمواصفات التعليم العالي والشهادات التي تمنحها جامعات القطر، إذا حقق الشروط القانونية والعلمية المطلوبة، وهي لائحة كبيرة جداً من الثبوتيات، فوزارة التعليم العالي لا تقوم بإصدار قرار التعادل إلا بعد التأكد من صحة الشهادة، فيتم إرسالها إلى سفاراتنا في بلدان الدراسة، وهي تحيلها إلى الجهة مصدر الشهادة للتأكد من صحة صدورها، ومن صحة المعلومات، هذا إذا كان التعادل بناء على طلب شخصي، أما إذا كان بناء على طلب جهة رسمية فيصدر القرار لهذه الجهة ويتم تحديد الغرض من هذا التعادل، ومن ثم يتم التأكد من صحة الوثائق بالإجراءات المذكورة نفسها، وفي حال كشف أية مخالفة فإن صاحب العلاقة يتحمل كامل المسؤولية، وكل التبعات القانونية والإدارية الناجمة عن ذلك، لأن ذلك يمس الأمن الوطني التعليمي، ذلك أن عملية معادلة الشهادات هي بمثابة عملية حفاظ على الأمن العلمي الوطني الذي يتعلق بحياة الإنسان ومستقبله وإيجاد المكافئ الأكاديمي الذي يعتبر من أولويات العرف الوطني السوري والأهداف التي تتطلع إليها وزارة التعليم العالي.

لذا فكيف يطمئن بعض المخالفين في مؤسسات الدولة رغم وجود هذا الشرط الوظيفي، ولماذا يُعفى مديرو تلك المؤسسات من المساءلة حول هذا الموضوع؟!

لقد توراى بعض المتورطين في موضوع الشهادات عن الأنظار، وبالعودة إلى سيرة عمل أولئك وشهرتهم خلال السنوات الماضية، فهي تؤكد فشل القانونيين في مجلس الوزراء في إدارة أبسط ملف في مؤسسات الدولة، فأحد الحاملين لشهادة دكتوراه مزوّرة وهو خرّيج إعدادية كان يعمل بصفة مستشار لدى رئاسة مجلس الوزراء وحاصل من هذا المجلس على بطاقة تعريف بذلك، مما أتاح له الظهور على كل القنوات التلفزيونية المرخصة في البلاد كخبير ومحلل اقتصادي وسياسي!

وخلاصة القول إن على الحكومة أن تنصف أصحاب الشهادات الحقيقية أولاً، ولن يجد بعد ذلك الفاشلون والمخالفون مكاناً لهم في مؤسسات الدولة، وخاصة العلمية منها، في الوقت الذي أصدرت فيه رئاسة مجلس الوزراء قرارها المؤسف والقاضي بعدم الموافقة على إعادة العاملين الذين تجاوزوا سن الخمسين والمنقطعين عن العمل في الدوائر الحكومية لأسباب مختلفة وظروف معينة خارجة عن إرادتهم مثل الصرف التعسفي والكيدي من الخدمة أو اعتبار البعض بحكم المستقيل نتيجة تغيّبه عن الوظيفة لأسباب قاهرة وما أكثرها خلال الأزمة. فمع انتهاء الظروف القاهرة ورفع بعض حالات الكيد والتعسف ورغبة هؤلاء الضحايا في العودة إلى العمل كمصدر رزق وحيد، تجود الحكومة بقرارها غير المنطقي والظالم والقاتل للخبرات، وكلنا يعرف أن العامل في الدولة بعد سن الخمسين يكون قد امتلك من الخبرات العلمية والإدارية ما لا يمكن أن يملكه العامل الجديد، ولعل الخسارة الكبرى في القرار المذكور هو أنه يحرم البلاد من الكثير من الخبرات والتخصصات العلمية التي يبدأ أصحابها بالإبداع الفعلي بعد سن الخمسين، فمن سيوظف هؤلاء بعد هذه السن،؟ومن سيتحمل تبعات حرمانهم وعائلاتهم من الرواتب الشهرية ووسيلة العيش؟! ألا يعد ذلك نوعاً من العقوبات الجماعية التي تشمل الموظفين المعنيين وأسرهم وأطفالهم والمجتمع بأسره؟!

وما يزيد هذا الموضوع ألماً في قلوب المطلعين عليه هو أن بعض الوزارات والدوائر ما زال يعيد توظيف بعض من تقاعدوا بموجب الولاءات الشخصية، ولدينا بعض الأمثلة التي تؤكد ذلك مع يقيننا أن غرفة التحكّم في رئاسة مجلس الوزراء تستطيع كشف الحالات المخالفة خلال ساعات فقط من خلال سبر بسيط لمفصَّل هويات العاملين في مؤسسات الدولة والجاري دفع رواتبهم وتعويضاتهم ومكافآتهم حتى تاريخه.

العدد 1104 - 24/4/2024