التكامل بين الصناعة والتجارة
فؤاد اللحام:
في الوقت الذي لا يمكن فيه نفي وجود منافسة وتعارض مصالح بين الصناعي والتاجر كما وجوده فعلياً بين الصناعيين والتجار بعضهم مع بعض، فإنه لا يمكن إغفال واقع وحقيقة وجود نوع من التكامل فيما بينهما وإمكانية تطويره، على الرغم من التصريحات المتعارضة التي تصدر أحياناً عن هذا الطرف أو ذاك، والتي تصاعدت في الفترة الأخيرة بشكل خاص بسبب الظروف الراهنة وإطلاق الجهات المعنية العديد من التصريحات حول حماية الإنتاج الصناعي الوطني وإعطائه الأولوية، وإعلانها منع استيراد المنتجات التي تنتج محلياً، والتي تكفي حاجة السوق المحلية.
التنافس، أو تعارض المصالح، اذا أردنا أن نكون أكثر تحديداً، لا ينحصر فقط بين الصناعي والتاجر الذي يستورد منتجاً مثيلاً لما ينتجه الصناعي، بل هو موجود أيضاً داخل القطاع الصناعي نفسه، أي بين حلقات الإنتاج في هذا القطاع، فمثلاً هناك تعارض مصالح بين الصناعي الذي يريد استيراد المادة الخام لصناعته، ومن ينتج هذه المادة محلياً، وأكبر مثال على ذلك هو الغزول والأقمشة والملابس الجاهزة خاصة عندما تسمح التشريعات بذلك أو / ويمكن الالتفاف عليها بهذا الشكل أو ذاك أو كما كان يحدث باستغلال مزايا اتفاقيات تحرير التبادل التجاري وخاصة فيما يتعلق بشهادة المنشأ ، إضافة إلى حالات التلاعب المعروفة بأسعار المواد المستوردة وتصنيفها. وتجربة السنوات الخمس التي سبقت الأزمة تؤكد ذلك بالبرهان القاطع، سواء في تراجع عدد المشاريع الصناعية المرخصة والمنفذة، أو بإغلاق العديد من المصانع القائمة وتحول أصحابها إلى الاستيراد لما يشبه منتجاتهم نفسها.
لكن على الجانب الآخر لا يمكن نفي وجود نوع من التكامل بين الصناعة والتجارة في أكثر من مجال، سواء فيما يتعلق بتأمين القطاع التجاري حاجة الصناعة من الآلات والتجهيزات ومستلزمات الانتاج أو / وفي توزيع وتصدير عدد من المنتجات الصناعية. فأكثر من 95% من منشآتنا الصناعية هي منشآت متوسطة وصغيرة ومتناهية الصغر، وليست جميعها لديها القدرة المالية والادارية والخبرة في الأسواق الخارجية لاستيراد موادها الأولية ومستلزمات انتاجها، ولذلك فإن قسماً هاماً من هذه المنشآت يعتمد على الوكلاء والمستوردين في تأمين احتياجاته من الآلات والتجهيزات والمواد الأولية، ما يخفف عنهم أعباء ومصاعب توفر التمويل الكامل الذي يدفع مقدماً لاستيراد احتياجاتهم بما في ذلك جهود الحصول على إجازة الاستيراد وتخصيص القطع والنقل والتأمين مقابل توفير كل هذه الأمور من قبل الوكلاء والتجار محلياً، وفي معظم الحالات بالعملة المحلية و تسهيلات بالدفع.
الأمر يختلف فيما يتعلق بالتسويق الداخلي والتصدير، إذ يبدو دور القطاع التجاري في هذا المجال أقل من المطلوب رغم ضرورته وتوفر الفرص والامكانيات لتطويره، ذلك أن العديد من المنشآت الصناعية المتوسطة والصغيرة والمتناهية الصغر، كما هو معروف، تفتقر إلى الخبرات والقدرات المناسبة في التسويق المحلي والتصدير، ما يؤدي إلى قيام أصحاب هذه المنشآت بجهود كبيرة في هذا المجال كان من الممكن توفيرها لتطوير منتجاتهم، وهو ما يشكل فرصة أمام القطاع التجاري لسد هذا النقص بالنسبة للتسويق والتوزيع والتصدير.
الظروف الراهنة تفرض المزيد من التنسيق والتكامل بين قطاعي التجارة والصناعة من أجل توفير مستلزمات الإنتاج وتنشيط الصادرات الصناعية من ناحية وسد النقص في حاجة السوق الداخلية من السلع الأساسية والضرورية التي لا تلبيها الصناعة بشكل كامل، وهذا من شأنه أن ينشّط الإنتاج ويشّغل المزيد من العمال ويحّرك السوق ليس بالنسبة للمنتج المحلي وحسب، بل حتى للمنتجات الضرورية الأخرى التي لا تنتج محلياً أو التي لا تكفي حاجة السوق المحلي ويتم استيرادها.
وقف استيراد كل ما يمكن إنتاجه محلياً ويسد حاجة السوق المحلية هو أمر مقبول وضروري تفرضه الظروف الراهنة من كل النواحي التي تتعلق بمحدودية الموارد وخاصة من القطع الأجنبي، إضافة إلى ترشيد الاستيراد والاستهلاك ودعم الصناعة الوطنية. لكن هذا الإجراء يجب أن يكون مشروطاً بتأمين مستلزمات الإنتاج للصناعة المحلية أولاً، وتحديده ثانياً بفترة زمنية محددة وكافية وملزمة لتحسين تنافسية المنتج الوطني من حيث الجودة والسعر في مواجهة المنتجات المستوردة فيما بعد، وهذا يتطلب جهداً مشتركاً من الجهات العامة والخاصة والأهلية المعنية من اتحادات وغرف الصناعة والتجارة وغيرها للوصول إلى ذلك، من خلال برامج الدعم الفني التي يجب إعدادها وتنفيذها لهذا الغرض وبشكل مشترك. مع التأكيد على ضرورة الاستفادة من الدروس المستخلصة من تجارب الماضي القريب سواء فيما يتعلق بالحماية المطلقة والحصر والتقييد التي أدت إلى انتشار التهريب والفساد وضعف القدرة التنافسية للعديد من المنتجات الوطنية، أو في مجال التحرير التجاري المتسرع وغير المنضبط الذي أدى إلى كورث اقتصادية واجتماعية لا يستطيع أحد إنكارها.