فضاءات ضيقة | الفكر النقدي ورهبة سلطة النموذج

د. عاطف البطرس:

ليس كل ما استقر بحكم الألفة والاعتياد صحيحاً، فثمة آراء ومعتقدات وأفكار بحاجة مستمرة إلى إعادة المساءلة، فالقِدَمُ وسعة الانتشار ليسا حجّة ولا دليلَ إثبات قاطعين.

العقل النقدي يحاول بشكل دائم أن يعيد النظر في كثير من المسلمات حتى البدهية منها، فتقدم المعارف والعلوم يزيح ما يثبت بطلانه، وعلى الفكر النقدي أن يتقبل تبدّل الحقائق وتغييرها، لأن الثبات والاستقرار الدائمين يشكلان تعطيلاً لجدلية الفكر في علاقاته مع الواقع.

على سبيل المثال لا الحصر، من المتعارف عليه أن عمر الشعر الجاهلي الزمني لا يتجاوز 150 إلى 200 عام قبل الإسلام، والسؤال المنطقي: هل يُعقل أن يكون هذا الشعر، بما يشكله من شكل وبنية شبه متكاملتين متضافرتين، لا يتجاوز عمره هذه المدة؟ وهل وُلد بهذا الشكل ناجزاً مكتملاً؟ وأين مرحلة الطفولة والبدايات؟

سؤال طُرح سابقاً ولقي إجابات مختلفة باختلاف تقدم المعارف حسب السياقات المعرفية لكل عصر من العصور.

لكن السؤال الأهم: كيف يمكن للعصر الجاهلي، بما هو قارّ لدينا من معرفة عنه، أن ينتج هذا البناء المعماري الشامخ الذي لا يقل قيمة فنية عن أهرامات مصر وحدائق بابل المعلقة؟!

نحن أمام إجابتين قابلتين للتداول والمناقشة.. إما أن صورة الجاهلي، كما عرفناها من خلال سير التاريخ وكتب الأدب، ليست كما هي عليه، فهو بعيد عن أن يكون البداوة والخيم والناقة والصحراء والقبيلة، وإنما هو استقرار ومدنية ومعرفة وثقافة.. أي بنية تحتية وعلاقات اجتماعية وقوى منتجة مكّنت الشعراء من إبداع هذا النموذج الشعري الذي ما يزال شامخاً حتى يومنا.

وإما أن يكون هذا الشعر ابن عصور أخرى غابت أو غامت ملامحها عنا، وبالتالي سلّمنا بما هو متعارف عليه دون عرضه على مسبار العقل والشكل المنهجي.

لن أدخل في ما قاله طه حسين وبعض المستشرقين حول صحة نسبة الشعر الجاهلي إلى عصره، والأدلة التي استندوا إليها، ولن نركن بشكل أعمى للعلاقة الجدلية القائمة بين البنية التحتية والبنى الفوقية، فقد أثبت تاريخ الفنون والفلسفة والفكر أن البنى الفوقية، والأدب منها، قد تسبق البنى التحتية وربما تتجاوزها كما حصل في آداب وفلسفة اليونان، وكما يحصل اليوم في كثير من الأطراف التي استطاعت أن تتجاوز في إنتاجها الإبداعي، وبشكل خاص الأدبي (رواية وشعر) المراكز الأكثر تقدماً في بناها التحية (صناعة، تقانة، اتصالات، استهلاك).

مناقشة هذا الموضوع قد لا تحمل جديداً معرفياً، لكنها تحرض الفكرة على تنمية وتنشيط الذاكرة لممارسة الشكّ العلمي، فما وصل إلينا من معارف أصبح مسلمات لدينا لا يجرؤ الباحثون على مناقشتها، فالعلم والبحث العلمي لا يعرفان الثبات ولا يطمئنان إلى المتداول بحكم قوة العادة، وهما مطالبان دوماً بإعادة طرح الأسئلة بغية الوصول إلى أجوبة أكثر صحة وإقناعاً.

إذا كان الماضي بحاجة ملحة إلى إعادة نظر نقدية في مسلماته، فكيف بالحاضر المعيش، الذي يحمل في ثناياه مخلفات الماضي، ألا نحتاج اليوم إلى جدولة جديدة لمعارفنا المستقاة من ماضينا، وذلك لفهم الحاضر الذي تشكل مكونات الماضي جزءاً كبيراً من عناصره؟ وكيف لنا أن نبني للمستقبل إذا لم نحسن مراجعة معطيات الماضي وتدقيقها، وتحرير الحاضر من شوائب وعوالق ما حمله من معلومات ومعارف لا يقبلها العقل المعاصر بما يمتلك من مقومات وأدوات معرفية.

رهبة الماضي والخشية من مواجهته والارتهان له والخضوع لسلطته وما قدمه من نماذج أصبحت قيماً معيارية، وما أجاب عنه من أسئلة تحتاج دائماً إلى أجوبة جديدة تتناسب مع طبيعة العصر.

تأريض الأجوبة وترهينها أو تحقيقها، والتحرر من سطوة الماضي وقوة تأثيره هي من أبرز مهمات الحاضر، إذا كنا نبتغي بناء مستقبل صحي مبني على أسس العلم ومناهج المعرفة الحديثة..

ثمة أسئلة كثيرة، تحتاج إلى أجوبة نوعية جديدة تتناسب مع احتياجات الحاضر واستحقاقات المستقبل، أجوبة جريئة، لا تخشى في قول الحقيقة لومة لائم، أو استكانة من ينشدون الراحة بدفن رؤوسهم في الرمال.

العدد 1104 - 24/4/2024