الحبُّ المُتَبادَلُ بين الأُمِّ وطفلِها
إسكندر نعمة:
مِن بديهيّات أَبجديّةِ الحياةِ، ومُسلَّمات التّربية والنّشأة الإنسانيّة. أَنّ الطّفلَ، أَيَّ طفلٍ يعرِف ويحسُّ أنَّ أُمّهُ توليهِ حبّاً مُنقطعَ النّظير. حبٌّ لا يرقى إليْه الشّكُّ ولا التَّردُّدُ. وأنّ لغةَ الحبّ المتواصلة بين الأمّ وطفلِها، لغةٌ لا تنقطع. وهي لغةٌ خاصّة لايعرفُها إلاّ مَن يُمارسُها. لها أبجديَّتُها الخاصّة وموسيقاها المُترفة وعالمُها السّحريّ. إلاّ أنّ هذه اللّغةَ تتطلَّب أدواتٍ كثيرةً وهمساتٍ لا حصرَ لها ونبَضاتٍ مشحونةً بكهرباءِ الرّوح والجسد. لِذا فإنّ هناك واجباتٍ خطيرةً وهامّةً جدّاً، تُلقى على عاتق الأُمّ لِتستطيعَ اكتشافَ هذه اللّغةَ وتنميتَها ودفعَها نحو الآمال البعيدة والعريضة والتّحليق بها عالِياً في عالَم الحبّ الإنسانيّ والثّقافيِّ والرّوحيّ.
قد تعتقدُ الأُمّ أَنّ الأُمومةَ بشكلها البديهيّ، كافيةٌلِأنْ تعقدَ أواصرَ الحبّ بينها وبين طفلِها. ذلك صحيحٌ جدّاً، إلاّ أَنّ الحبَّ بمفهومه الرّوحيِّ والطّبيعيّ غيرُ كافٍ. إذ لا بدَّ من أن يتداخل الحبُّ بطيفه الأُموميّ الرّهيف، مع توجُّهاتٍ ثقافيّة وتربويّة جادّة حازمة. وعلى الأُمّ أن تُتقِنَ دورَها في القيادة والتَّوجيه.
*- على الأمّ أن تُركِّزَ دائماً على مواطن النّجاح والقوّة عند طفلِها. إذ عليْها أن تصفَهُ دوماً بأنّه شُجاعٌ وإيجابيّ، بدلاً من وصفه بأنّه متهوِّرٌ. تصفُه بأنّه ذو شخصيّة قياديّة بدلاً من وصفه بأنّه مُسيطِرٌ وساديّ. إنّ ما تعتبرُهُ الأُمّ مساوئَ عندَ طفلِها، يُمكنُ تحويلُه بسهولةٍ إلى مزايا جيّدة،وذلك بالكثيرِ من الحبّ والصّبر والتّشجيع والثّناءِ عليه. لِأَنّه في انتهاج ذلك مساعدةٌ للطّفلِ عل تنمية طاقاتِه الإبداعيّة ومداركه المعرفيّة.
*- على الأمّ أن تتفهَّم بدراية وحذرٍ ثقافيّ مراحلَ نموِّ طفلِها العاطفيّ. إذ أنّ التّطوُّرَ العمريَّ للطّفل يجبُ أن يُؤْخذَ بعين الإعتبار. فلِكلِّ مرحلةٍ عمريّة ملامحُها وصفاتُها وكيْنونتُها الرّوحيّة والعاطفيّة والسّلوكيّة. فالطّفلُ في مرحلة العمرِ من 5- 8 سنوات يعيشُ إحساساً ذاتيّاً بأنّهُ قادرٌ على كلِّ شئٍ. وفي مرحلة العمر من 9 – 12 تتحدَّدُ صورتُه الشّخصيّة عن نفسِه من خلال اللّعب مع أَقرانه وحبِّ السّيطرة والتّفوُّق. وفي نهاية هذه المرحلة، يكتسبُ الطّفلُ ثقتَه بنفسِه من خلال المفاهيم والمبادِئِ الّتي تربّى عليْها واكتسبَها سواءٌ في المدرسة أو البيت أو المجتمع. وعندما يلجُ الطّفلُ عالَمَ المُراهقة ويميلُ في سعيِه للنّضجِ وبناء شخصيَّته المستقلّة، يُصبحُ مُتردِّداً ضائِعاً بين الخوف والاندفاع والتّحدّي. هنا يبرزُ دورُ الأُمّ الإيجابيّ بأن تتفهَّمَ حالتَهُ النّفسيّة والعاطفيّةَ، كما تَفهَّمتْها في المراحل السّابقة. ولكن هنا وفي هذه المرحلة بشكلٍ أكثرَ عمقاً ودقّةً وخاصّة مع الأَطفالِ الإناث. وأن تتعاملَ مع التَّغيُّرات النّاجمة عن كلِّ مرحلة بإيجابيّة وإتقانٍ وصبرٍ كبير.
*- على الأمّ أن تتواصلَ دائماً مع طفلها ولا تنقطعَ عنه. وأن تستمعَ إليه مُخطِئاً كان أم مُصيباً. فالطّفلُ يُسْعدُهُ أن يستمع إليه النّاسُ وخاصّة والديه، وأمُّه على وجه التحديد. يجبُ على الأُمّ المثاليّة أن تُصغي إلى طفلَها باهتمامٍ وتركيز، وتُناقشَ معه احتياجاتِه ومشكلاته. وتُشْعِرُهُ بأنّها تتفهَّمُ رغَباتِهِ وآرائِه وتساعدُهُ على حلِّ مُشْكلاتِه النَّفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة. فعندما يشعرُ الطّفلُ بأنّ أُمّهُ تُشاركُهُ آراءَه وحاجاته وتساعدُه على حلِّ مُعضِلاته، يرتبطُ بها أكثرَ، وتتوطَّدُ أواصرُ الحبِّ العميق بينهما.
*- من الخطأ أن تعتقدَ الأمّ أنّها تمنحُ الحبَّ لِطفلِها، عندما تُؤَدّي عنه كلَّ شئٍ. لا. فالتَّدليلُ المُفرِطُ يؤَدّي إلى نتائجَ سلبيّة جدّاً، ولا يُقدِّمُ الدَّليلَ على الحبّ، بل يُبرهنُ على عدم الثِّقة.. أيَّتُها الأُمُّ، دعيه يقومُ بكثيرٍ من أعمالِه الخاصّة بنفسِه، وراقبي من بعيدٍ الخطأَ والصّوابَ في أَعمالِه، ومارسي دورَ الموجِّهِ والمُرشدِ. إنّ الطّفلَ المُدلَّلَ كثيراً ما يعجزُ عن مواجهة الحياة مُستقبلا. بينما الطّفلُ الذي يعتمدُ على نفسِه في مُمارسة نشاطهِ اليوميّ، ينمو بشكلٍ أفضلَ، وتنمو معه ثقتُهُ بنفسِه وقدرتِه على مواجهة الحياة المُعقَّدة.
*- إنّ من أهمّ مقوِّمات الحبِّ الأساسيّة المُتبادلة بين الأمّ وطفلِها، أن يشعرَ الطّفلُ بأنّ أمّه تحترم شخصيَّتّهُ وآراءِه وعقليَّتَه المُختلِفةَ طبعاً عن عقليَّتها وآرائها. على الأمّ أن تهتمَّ مُبكِّراً بتشجيع طفلِها على تحمُّل المسؤوليّة واتِّخاذِ القرار، خصوصاً حول أموره الشّخصيّة في المدرسة والرّفاق والطّعام واللّباس. لأنّ الطّفلَ إن لم يعتمدْ منذُ الصِّغر على اتّخاذ القرار وتحمُّلِ النّتائج، سيكبرُ وسيجدُ نفسَه مُتعثِّراً في مواجهة مسؤوليّاتِ الحياة مُستقبلاً. إنّ احترامَ شخصيّة الطّفل وعقليّته وعدم وصفِه دوماً بأنّه مُخطِئٌ، يُعدُّ أَهمَّ مُفجِّرٍ لِينابيع الحبِّ بين الطّفلِ ومَنْ حولَه من أمّ وأبٍ وأقرباء. إنّ الإصرارَ على وصف الطّفل بأنّه مُخطئٌ في كلّ شئٍ، هو الخطأُ الفادحُ الّذي يرتكبه الجميع في حقّ طفلهم، فالحذرُ الشّديدُ واجبٌ إزاءَ هذه القضيّة الحسّاسة.
*- إلاّ أنّ التّغاضي والتّسامحَ المُفرطَ مع الطّفل، لا يُعدُّ حبّاً واهتماماً أبداً، بل هو على النّقيضِ تماماً. فعندَما يتخطّى الطّفلُ الحدودَ والضّوابطَ الخُلُقيّةَ والاجتماعيّةَ والعائليّةَ الّلازمةَ لِنموِّهِ وتنشِئَتِه السّليمة، يجبُ آنذاكَ وضعُ الحدودِ والتّدخُّل الإيجابيّ الحازم. لأنّ بعضَ الأخطاء والمواقف لا تقبلُ التّسامحَ ولا التّسوية، خاصّة عندما تكون تصرُّفات الطِّفل تتّجهُ نحو المخاطرة والمغامرة والمجازفة الغامضة والانحراف. عندئذٍ يجبُ الوقوفُ أمامه بحزمٍ مُرافَقٍ بالنُّصح والإرشاد والتّوجيه الدّقيق، وتقديم الأمثلة الرّادعة. وفي النّهاية سيشعرُ الطّفلُ بالرِّضا والموافقَة، وسيدرِكُ أنّ أسبابَ رفضِ الأمّ والأهل لِتصرُّفاته ناشِئَةٌ من القلقِ عليه والخوف من التّدهورِ،وأنّ الحبّ لا غيرَه هو الدّافع لِذلك.
*- على الأمّ والأب معاً أن يُشْعِرا الطّفلَ بأنّهما يستمتِعان بالحديث معه، ومناقشةِ بعضِ الأُمور، والجلوس معه ولو لِفترةٍ طويلة. إنّ تعليم الطّفل وتصحيحَ موادِّهِ المدرسيّة، وتوجُّهَهُ الاجتماعيّ، غير كافٍ أبداً. إنّ الحديثَ معه وإشعارَهُ بالمُتعة جرّاءَ هذه المحادثة، هو خيرُ مُفجِّرٍ لِأَنوار الحبّ المُشترك القائم بين الطّفل وأهله.
*- أخيراً.. ولعلَّ أهمَّ ما يُقالُ للأُمّ والأب معاً. إنّ تصحيحَ أخطاء الطّفل- وما أكثَرَها-، يجبُ أن تكون بِأُسلوبٍ لطيفٍ بسيطٍ ومرِحٍ. وإنْ فَقَدَ أحدُ الأبويْن أعصابَهُ وهدوءَهُ إزاءَ موقفٍ مُعيَّن مِن طفلِه، فلا غُبارَ أبداً أن تعودَ الأمّ أو الأبُ فيعتذِران من الطّفل عن الصّراخِ في وجهِهِ وشدَّةِ تعنيفِهِ. إنّ هذا الاعتذار، يُشْعِرُ الطّفلَ بأنّ شخصيَّتَهُ كاملة، وأنّ له دورَهُ في الحياةِ، وأنّه على الرّغم من أخطائِه الّتي ارتكبَها، ما يزالُ محبوباً جدّاً لدى أبويْهِ، فالطّفلُ أيُّ طفلٍ إنّما يبحثُ عن الحبّ قبل كلّ شئٍ. إنّ تصَرُّفَ الأهل بالطّريقة المُشار إليْها، يُعدُّ الدَّرسَ الأهمَّ الّذي يُعطَى لِلطِّفل لِتنميَةِ أَواصر الحبّ الأزليّ بين والطّفل ومَن حولَه.
ذلك غيضٌ من فيض. إنّه ليس كلَّ شئ. ولكنّه يطرحُ بعضَ النّقاط الهامّة، ويُنيرُ الدَّربَ أمامَ الأمّ والأب وكلّ أفراد العائلة، لِيعيشَ الجميعُ في أنوار الحبِّ المُتبادَلِ، الحبِّ الرّوحيِّ والاجتماعيِّ والثّقافيِّ. هذا الحبُّ الّذي لولاهُ لأَظلَمتْ دنيا الأفراد والجماعات…
أَيَّتُها الأمُّ العظيمةُ.. أيُّها الأبُ الرّائِدُ.. أيُّها الطِّفلُ الرّائعُ.. هل لكم معاً في التّعاوُن المُثْمرِ لِتحقيق ذلك؟… أنا لاأشكُّ في ذلك مُطلَقاً.