الإدارة مـا بعــد الأزمـة
د. سنان علي ديب:
تختلف السياسات والبرامج التي يُعمل بها في البلدان باختلاف مدى التطور والنمو والتنمية في كل بلد، وكذلك باختلاف الحالة العامة ما بين استقرار وأمان وانضباطية، وفوضى ناجمة عن أزمة معينة او تأزيمات، وهنا كذلك تختلف الأساليب بحسب عمق الأزمة وتوسعها وانتشارها الأفقي والعامودي، وباختلاف مسبباتها ونوعها، فقد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو ثقافية أو عسكرية، أو مركبة تجمع أغلب الأسباب السابقة وينجم عنها انعكاسات مختلفة تؤثر على النمو والتنمية والاستقرار والأمان، وقد يكون الهدف منها سلب السيادة والقرار، أو الاحتلال الدائم بالأساليب الجديدة للإمبريالية. للأسف وقعت كثير من البلدان التي اجتازت مراحل كبيرة من النمو والتنمية في أفخاخٍ نُصبت لها، لفرض سياسات اقتصادية اجتماعية لا تناسب خصوصيتها، ولا تناسب مراحل التطور، فعندما يكون بلد قد وصل إلى مؤشرات متميزة بالمقاييس الدولية من نواحي وفيات الاطفال والأعمار المتوقعة للرجال والنساء والسيطرة على الأمراض ومحو الامية ومكانة المرأة وانتشار التعليم والصحة ومياه الشرب والصرف الصحي ومعدلات النمو والأمن الغذائي ومستوى صفري من الديون وميزان تجاري رابح وتكامل اقتصادي ومخزون جيد من الذهب والعملات الصعبة، فأي حاجة إلى تغيير يضرب هذه البنى وينشر الفساد؟! وهذا ما حصل بالانقلاب على مقررات المؤتمر العاشر، الذي تبنّى نهجاً كان سبيل العودة القوية للاقتصاد الألماني بعد الحرب العالمية الثانية. وهذا الانقلاب سبب تخسير للقطاع العام: إقراض بلا ضمانات، وتعزيز لغريزة الاستهلاك، وضخ مئات آلاف السيارات، وذلك لزيادة استهلاك المحروقات وزيادة الفقر والبطالة وتهجير ملايين من أراضيهم، إلى محيط المدن الكبرى، ليصبحوا بلا استقرار نفسي واجتماعي، ولتزيد العشوائيات، مع ممانعة لحل هذه المشكلة المتضخمة وما تحويه من بيئات غير مستقرة، تُستثمَر بنشر كثير من الأمراض الاجتماعية. وللأسف كان هذا مدخل للأزمة التي تطورت إلى تأزيم، انتقلت إلى مشكلة حاولوا توصيلها إلى فوضى عارمة. وضمن هذه المعطيات، ظل خطاب مدّعي الأكاديمية ومحترفي التنظير بالسؤال عن هوية الاقتصاد، متناسين أنهم كانوا مَن صفقوا وباركوا لعرّاب الانقلاب الاقتصادي ومن وقف خلفه. وما يهمنا هنا أن الظروف الاستثنائية تستدعي اتخاذ قرارات خاصة، وفي مثل ظروفنا الهدف الأكبر هو الجغرافيا والسيادة، ولا تكون الغاية الاقتصادية أو القانونية هي الأهم. المهم تأمين ما يمكن لاستمرار المعيشة ضمن أولويات، في ظل العقوبات الظالمة والحصار اللا إنساني، وكان وحصل إدارة بما يمكن، رغم الملاحظات، ولكن قساوة الأزمة جعلتنا نقول أفضل ما كان ضمن منعكسات اقتصادية واجتماعية للأزمة، حجم الخسائر تجاوز 600 مليار دولار، ملايين الشقق ما بين دمار وتهديم، محاولة ضرب البنى التحتية وخاصة الكهرباء، اختلال مصادر الطاقة، مئات آلاف من الشهداء، أكثر من مليون جريح ومعاق، ملايين من النازحين وخروج الكثير من المناطق خارج السيطرة. ولهذا انتُهج أسلوب التغاضي بما لا يؤثر على الهدف الأهم وعدم التصدي للفساد الذي تضاعف وسط محاولات ابتزاز بسبب الوضع العام. والمهم تجاوزت الدولة السورية، جيشاً وشعباً وقيادة، هذه المطبات وسط واقعية وعقلانية، وتزامن قرب العودة الكاملة للأراضي والحل السياسي بزيادة الاحتياجات للعودة القوية، وبزيادة الضغط عبر العقوبات وعبر الحصار وعبر افتعال الأزمات المغطاة إعلامياً، لاستكمال الارهاب العسكري بإرهاب اقتصادي مفاجئ، يستثمره تجار الأزمة وحامو الفساد، عبر ضخ خطير وتضخيم ومحاولة نشر اللا ثقة بالأداء الحكومي وأداء الدولة على الرغم من نجاحها في أغلب المواضيع إلا موضوع الاقتصاد الذي مازال لغزاً وسط جهلنا بالمقدرات والمؤشرات، وهذا حق لدولة متأزمة إلى أعلى درجة. ولكن ما يجب أن نفهمه من اللعبة التأزيمية الأخيرة أن حجم التحديات كبير، وأن الكل يريد الابتزاز، وهو ما يضعنا أمام حالة لا مفر منها: التخندق الداخلي الوطني وتفريغ الألغام وإعادة اللحمة والتواصل لعودة التماسك الداخلي، وهذا لا يحتاج إلا إلى نيّة وإرادة، فالعقلية التي أدارت الأزمة بآخرها عقلية منفتحة وتبحث عن العلاجات والأدوات الناجحة، والدليل على ذلك سياسة المصالحات والمسامحات التي قوضت عرقلة تجار الأزمة ومن يريدون سورية ساحة لحماية بلدانهم، وكذلك السعي للإحاطة بالفساد عبر إصلاح إداري للوصول إلى لحالة الصفرية. فمن دون سيادة القانون وتقوية مؤسسات الدولة به لن نتجاوز، ولذلك يجب وضع برنامج لما بعد الأزمة يأخذ بالواقع والطموحات ويعطي أولويات الانطلاقة الاقتصادية وتأمين الحاجات الضرورية وإعادة الثقة المفقودة بين المواطن والمسؤولين رغم وجود جزء يعتزّ به وبسلوكه، وكذلك لابد من تغيير العقلية التي كانت تهدف للخصخصة ولو على حساب تفتيت البلد. ويجب الانتباه إلى أن بناء الإنسان أهم من الحجر وأن الحاجة زادت لمؤسسات الصحة والتعليم التي حاول البعض ضربها، ولمؤسسات الخدمة الاجتماعية، فالأعباء الاجتماعية تضاعفت وواجب الجميع المساعدة بها لمن ضحى من أجل هذا البلد، ولذلك لابد من تسخير كل القوى والإمكانات البشرية والمادية للعودة القوية، ونحن بحاجة إلى كلٍّ من القطاع العام والخاص والتشاركي والأهلي، وكل ذلك يجب أن يترافق بإعلام مشجع مراقب فاعل لا منفعل.
ما بعد الأزمة أخطر وأكثر تطلباً منها، ولذلك يجب تعميم الاستقرار ومواجهة الفوضى ومن يلعب بها، ويجب الاقتناع بأنه لا خندق إلا السوري، ومن يتخندق بأي خندق آخر مشكوك به وبوطنيته، لا حصانة لأحد إلا لسورية، والقانون فوق الجميع. ويجب ان نبدأ بتحويل المواطن من منفعل سلبي إلى فاعل إيجابي عبر إعطائه الأهمية وعبر العدالة الاجتماعية القائمة على مساواة الدم والحق والواجبات ضمن الإمكانات. وكل ذلك بحاجة إلى حكومة قادة وليست موظفين، مع احترامنا لما بُذل من جهد، ولكن كما كنا نقول الفريق الاقتصادي يقوضه أمام حاجات المواطن، وسياسة نقدية مالية لاهبة، ويجب أن تكون ذاهبة.