.. يوم واحد لا يكفي

حسين خليفة:

هي مصادفة تاريخية، وما أكثر المصادفات في تاريخنا. أن يلتقي العيدان أو اليومان في يوم واحد هو الخميس الثالث، الحادي والعشرون من آذار شهر الخصب والثورات المغدورة والبراعم التي تتحدى الصقيع والبرد وتنمو على جسد الأم، الشجرة… هل هي مصادفة؟

يشكُّ بعض المغرضين بأن جناب الحكومة الموّقرة قد فعلت ذلك عن سابق إصرار وترصّد لتكسب يوم دوام من العاملين لديها بأجور بائسة ومخجلة (أقل من 100 دولار شهرياً) وهو ما لا تقبل به خادمة سيرلانكية مع احترامي لكل الخادمات اللاتي هنّ أمهات ومعلمات أيضاً ولهنّ في العيدين حصة.

ولأني من أتباع عمّنا ديكارت أعيش على الشكّ بكل اليقينيات، أشكُّ بأنهم فعلوها لئلا يشعر العاملون في الدولة بالملل و(الاشمئناط) من كثرة العطل الرسمية، فيذهب تفكيرهم بعيداً ويمعنوا في الحلم بسيران دمشقي إلى أطراف دمشق، ليقوموا بجريمة شوي البطاطا والبصل مثلاً بعد أن وصل الكيلو غرام منها إلى دولار بالتمام والكمال.

عيد الأم وعيد المعلم في يوم واحد، فليكن عيد الأمّ المعلمة، وكثيرات من أمهات البلد يعملن في مهنة التعليم، وبالتالي لهن هديتان في هذا اليوم، وعيدهن عيدان.

لكن الأمهات العاملات في مهن أخرى وغير العاملات أيضاً هن معلِّمات من حيث ندري أو لا ندري. معلمات للطفل على خطواته الأولى في الحياة، وهذا لعمري أصعب أنواع التعليم، ومعلمات لأبنائهن وأبناء العائلة والجيران أحياناً في دروس تقوية ومراجعات ووظائف لا تنتهي، ومعلمات للرجال على الجلَد والصبر والتضحية، فأعمال المنزل التي تختص بها المرأة عندنا للأسف هي من أصعب الأعمال وأكثرها مشقّة، يعرف ذلك الرجال الذين عاشوا وحيدين لفترة، أو استلموا أعمال المنزل لفترة مؤقتة بسبب ظرف الأم أو الزوجة.

من هنا فإن ما أقدمت عليه الحكومة بدمج العيدين في يوم واحد قرار صائب وصحيح ولا يرقى إليه الشك، وهي. أي الحكومة.لا يأتيها الباطل من بين يديها أو من خلفها.

في عيد الأم أهنئ معلمتي الأولى، أمي التي علّمتني أن أصبح إنساناً، ثم علّمتني أن أحبّ وأنسى الإساءات والأذى وأخطاء الآخرين بحقي، وأخطائي بحقهم أيضاً.

أمي الأميّة كنبيّ يأتيه الوحي كل ساعة، فيقرئنا ونردد: ما أنا بقارئ، يُعيد الطلب عشرات المرات مشفوعاً بالقبلات والدموع أحياناً، لكننا لا نقرأ، ولا كرامة لنبيّة في بيتها.

الأم التي ترانا في منامها ما إن نتعرّض لوعكة في الروح أو في الجسد، وإن كانت تفصلنا عنها جبال وبحار، وحالما تستفيق من حلمها تتواصل معنا بأي طريقة لتطمئن بأن منامها عابر، وأننا ما زلنا نسعى في مناكب الأرض، وننسى هذه الشجرة التي شربنا من نسغها ونمنا على سهرها وتعبها.

المعلمات (والمعلمون أيضاً) ليسوا بحال أفضل من حال الأم، فهم يعلّمون أجيالاً تكبر وتتابع طريقها، ولا يتذكرهم أحد منهم إلاّ نادراً، ولو قام كل منّا بجردة حساب لمعلميه في مختلف مراحل التعليم، وهل بحث عن أحدهم ليمنحه ولو كلمة حب بعد أن تقاعد ودخل مرحلة الشيخوخة، لاكتشف حجم الغبن الذي يلحق بالمعلم، والجحود غير المقصود طبعاً، فمشاغل الحياة تأخذ الجميع، ثم تأتي مصادفة أحياناً، أو حديث عابر مع أحدهم ليعيد اكتشاف من علمك يوماً، من زرع أشجار المعرفة في ذاكرتك وروحك.

في عيد الأم وعيد المعلم، في يوم الأم المعلمة، يوم المعلم المربي، الأب، والأم، لا نملك أن نسرد أسماء من كُنّا نقف لهم إجلالاً صباح كل يوم، ومن كُنّا نهابهم ولا نخافهم، من كُنّا نتمنى أن نظفر بحديث جانبي معهم، أو أن ننال شرف تكليفنا من قبلهم بجلب طبشور أو دفتر أو كتاب من المكتبة أو من الصف المجاور، فنصبح طواويس من الفخر.

لا نملك أن نسرد أسماءهم، لكن أصواتهم ووجوههم مزروعة في حدائق الذاكرة.

لكِ أمي ورد الروح، ولمعلميَّ ومعلماتي، وسيدة روحي التي ربّتني وربّت أولادي، كل التمنيات بأن تكون الحياة أرحم بهم ممّا هي الآن، وأن تكون أرحب أيضاً.

husenkhalife@hotmail.com

العدد 1102 - 03/4/2024