في ظلال الصنوبرة

شروق ديب ضاهر:

لكز الباب الخشبي بعكازه العتيق، ودفعه ببطءٍ، والجاً مضافة مختار القرية، نهض الحاضرون وتداخلت أصواتهم تسلّم على القادم الأخير، عميد المعمرين في القرية وحكيمها، قام المختار إليه مرحّباً ورافقه إلى مكانه المعهود في صدر المضافة بينما جلس هو عن يمينه، أسند الحكيم رأسه على طرف عكازه وجال بنظره في أرجاء المضافة التي ضاقت على سعتها برجال القرية، وملأ ضباب التبغ العربي فضاءها، بينما تناثرت كؤوس الشاي أمام الحاضرين شاهدةً على أحاديث طالت بينهم قبل وصوله. تنهد المختار موجهاً حديثه الى الموجودين: نجتمع هذا المساء لمناقشة أمرٍ أضحى مصدر قلقٍ للجميع، شجرة الصنوبر العتيقة العملاقة التي تنتصب وحيدةً على طرف النبع، والتي يعود اسم قريتنا إليها، لم نعد نطيق صوت اصطفاق أغصانها المدوّي وحفيف أوراقها المزعج. إنها شجرة ملعونة تتلبّسها أرواح شريرة تتصارع فيما بينها، فيصدر عن الشجرة زعزعة مرعبة وصفير مخيف رغم سكون الهواء وهدأة الرياح، حتى أطفالنا هجروا ملعب الظلال الوارفة تحتها. بقاؤها في قريتنا فأل نحس ونذير شؤم ويجب علينا قطعها، وقد أعذر من أنذر، هذه الشج… توقف المختار فجأةً عن الحديث مشيراً بسبابته باتجاه النبع: أتسمعون زعزعتها وصفيرها رغم سكون الرياح؟! تعالت همهمات الحاضرين مؤيدةً رأي المختار. ضرب الحكيم الأرض بعصاه، فصمت الجميع وبادرهم قائلاً: هذه الصنوبرة العتيقة لعبْتُ تحت ظلالها طفلاً، وأخبرني أبي أن جده لعب تحت ظلالها، وجميعنا في هذه القرية يعلم أباً عن جد حقيقة قصتها، هذه الشجرة كانت ملاذاً للعاشقين الصادقين في حبهم يلجؤون إلى خميلتها بعيداً عن العيون والألسنة، فتشاركهم عشقهم العذري بحفيف أوراقها وعزف النسيم على أوتار أغصانها وتغريد بلابلها، عندما كان أهل القرية يسمعون غناء أغصانها كانت سرائرهم تتيقن أن عرساً سيقام قريباً تحت ظلالها،  إلى أن أتت ساعةٌ أراد فيها أحد الذئاب البشرية افتراس صبيةٍ واردةٍ النبع، يومئذٍ اشتعلت أغصانها غضباً وخوفاً، وملأت زعزعتها فضاء القرية، فهرع الرجال وقلوبهم تصطفق كما أغصانها من هول ما سمعوا، وأنقذوا الصبية من براثن مفترسها. منذ ذلك اليوم أضحى للصنوبرة قدسيتها في قلوب أهل القرية، وباتوا يعرفون أن صفيرها وزعزعتها إنما هما لأمرٍ فيه كذب أو خيانة أو شائنة. الأرواح الشريرة لا تتلبس الأشجار يا مختار، لكن الصنوبرة تتمايل راقصة مغنية إذا ما ظللت قلوباً دافئة صادقة، وتضرب بأغصانها ناقوس التنبيه إذا ما شعرت بالخديعة والرياء، والدليل هو ما سمعناه من اصطفاقٍ وزعزعةٍ عندما تفضلت بحديث شيطنتها ولعنتها رغم يقينك في سريرتك بعكس ذلك. تنحنح مدير الخدمات في القرية، وعدّل جِلسته موجهاً حديثه إلى الحكيم: مع فائق تقديري واحترامي، ما تفضلتم به عن الصنوبرة يا حكيمنا قد جانب الصواب، والدليل على ادعائي هو تجربة شخصية محضة، لم أسمع و لم أنقل، بل عايشت ورأيت بأم عيني، في السنة الماضية جلست في ظل الصنوبرة أريد مراجعة دراسة لمشروع تجميع مياه النبع كوني مهندساً مختصاً في مثل هذه المشاريع، لكن زعزعة جنونية اجتاحت أغصانها زعزعت قلبي معها، وصفيرها كاد يقتلع طبلة أذني رغم سكون الرياح، لم أعرف كيف وصلت إلى منزلي، لا أعادها الله من ذكرى، هذه الشجرة ملعونة، كما قال المختار، جعلتني وبكل صراحة أعدل عن تنفيذ مشروع كان سيعود بعميم النفع على كل سكان القرية، أؤكد لكم الآن أن أفضل مشروعٍ نقوم به في المرحلة العصيبة الراهنة التي يمر بها الوطن هو قطع هذه الشجرة الملعونة. نظر الحكيم إليه بصمت بدّده صوت شيخ القرية الذي أمسك بناصية الحديث عن يساره: اعذرني يا حكيمنا، لكن الله أمرنا ألّا تأخذنا في الحق لومة لائم، هذه الصنوبرة إنما هي فتنةٌ يتوجب استئصالها قبل أن تنشب الوقيعة بين أبناء القرية الواحدة، أذكر أنني يوماً اصطحبت الى ظلها الأطفال الذين كلفني أهل القرية بتعليمهم تلاوة الذكر الحكيم في العطلة الصيفية، وكي أكون أميناً في روايتي لا أنكر أن الشجرة تمايلت أغصانها على وقع التلاوة، لكن ما إن بدأت بدرس الوعظ والنصح حتى اهتزت أغصانها وانتفضت أوراقها وأخذت بالزعزعة والصفير كأن شيطاناً مسّها، هذه الشجرة ملعونة وأقماع الصنوبر فيها كطلع الشياطين، قوموا من ساعتكم فاقطعوها واقتلوا الفتنة في مهدها ابتغاء وجه الله! ارتفعت أصوات الحاضرين بالتكبير بينما ملأ صفير الصنوبرة وزعزعتها فضاء القرية، أراد الحكيم التحدث لتفسير الأمور وتهدئة النفوس، لكن هدير التكبير بدد صوت العجوز المسن وما من أحدٍ أصغى إليه، تركه الجميع وحيداً وساروا يحملون فؤوسهم وانهالوا على جذعها ضرباً وتقطيعاً، استحال صفير الشجرة أنيناً مزق جنبات الفضاء، وما زاد الأنين رجال القرية إلا جنوناً وإمعاناً في التقطيع والتمزيق، عادوا إلى بيوتهم عود الفاتحين، وملأ كلّ منهم فناء داره بمؤونة الحطب للشتاء القادم. وقف الحكيم متكئاً على عكازه أمام جذع الشجرة المبتور، شقت دموع القهر والحسرة طريقها على خده وتساقطت على مقبض العكاز، تحدث إلى بقايا الجذع بصوته النحيل المتهدج: مثلكِ لا يؤبَّن، قد أبّن أنينك أرواحهم الميتة في أجسادهم السائرة، لم يصغوا إلي بل لم يمنحوني فرصة الكلام، فقطعوكِ وقطعوا معك آخر حبال الشرف والصدق والكرامة في نفوسهم، أعلم أن مدير الخدمات حين استظل بك أراد دراسة مشروعٍ لتحويل الأراضي فوق النبع إلى مكبٍّ ضخمٍ للنفايات، ولم يخفَ عنكِ كما لم يخفَ عني اتصال تجارٍ من خارج القرية به وبالمختار، بهدف إقامة معملٍ لتدويرها ضاربين عرض الحائط بما سيجرّه ذلك على القرية من أذى وتلوث. أما الشيخ الذي أراد بدرسه للأطفال وعظاً ونصحاً تحت ظل أفنانك، فعنوان درسه كان تكفير الآخرين ووجوب قتالهم وقتلهم، في اللحظة التي هويت فيها هوى قلبي في قاع صدري معكِ، لم يبقَ منك أيتها الباسقة الشامخة إلا أشلاء جذعك وهذا العكاز الذي صنعه جدي من خشبك العتيق سأظل متكأً عليه حتى آخر أنفاسي، سأوصي أن أدفن تحت جذعك المبتور فيكون لقبري شاهداً، أريد لرأسي أن يتوسد أحد جذورك الضاربة في الأرض، لابد أن نبض الحياة سيبقى سارياً في لُمْعته النقية.

بعد مرور عامٍ واحد استفاق أهل القرية على صوت صفيرٍ وزعزعة قادم من جهة النبع، هرع الناس وقلوبهم تكاد تنفطر من شدة الخوف، وتجمعوا حول ضريح الحكيم، هو الصفير القديم عينه رغم زوال الصنوبرة، لكن فرعاً أخضرَ بدأ يشق طريقه بين الجذع ورأس الضريح ينبئ بولادة صنوبرةٍ جديدة.

العدد 1104 - 24/4/2024