أموال الأغنياء.. وسؤال خاص للفقراء
يونس صالح:
بين الجيوش والأموال.. بين الأساطيل والسلع العابرة للقارات، بين العسكر ورجال البنوك، علاقة قديمة.
في القرن الماضي كان ذلك كله يتحرك في وقت واحد وفي اتجاه واحد، وعندما غزا رأس المال الأوربي عالم الفقراء تحصّن بالاستعمار، فكان مقدمة له أو نتيجة على حد سواء.
وباستمرار كان لحركة رأسمال أحد الشكلين: الاستثمار المباشر الذي يزرع أو يصنع أو يتاجر أو يفتتح مصرفاً، خارج الحدود، أو الإقراض الذي يتجه من الشمال إلى الجنوب، ومعه الوصاية والتدخل السياسي.
في النصف الثاني من القرن العشرين استمر الشكلان، وبرزت قوة مالية ضخمة هي قوة الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ الحرب العالمية الثانية كان هناك باستمرار خلاف حول انتقال الرساميل، خصوصاً إذا أخذت شكل الاستثمار المباشر.
كان البعض يقول: إنه الاستعمار الجديد، فمن خلال الأموال تجري وتترسخ السيطرة على السياسات.
وكان البعض يقول: بل إنه الاعتماد المتبادل والتعاون الدولي الضروري، فهناك أسواق تصدر الرأسمال، وأسواق توظف هذه الأموال، والمنفعة للطرفين.
وخلال الصراع بين الفكرتين آثرت دول كثيرة حديثة الاستقلال أن يكون ترتيب الأولويات لديها، حين تحتاج إلى تمويل أجنبي: الهبات غير المشروطة، ثم القروض، ثم الاستثمار، وكان لذلك منطق، فالهبات لا تضع قيداً ولا ترتب عبئاً، والإقراض يمكن أن يدار بإدارة وطنية ووفق المصالح الوطنية، أما الاستثمار الذي اعتبرته هذه الدول أبغض الحلال فهو في كل الأحوال يتيح فرصة لقدر من السيطرة الأجنبية والتأثير الخارجي.
في الربع الأخير من القرن الماضي ودون حاجة لاستخدام الجيوش والأساطيل، واعتماداً على الفائض والحاجة، فائض بعض الدول وحاجة البعض الآخر، استمر تدفق الرساميل بأرقام قياسية، بعد أن خلقت ثورة النفط أكبر تيار مالي عرفه العالم.
كان ذلك التيار يسير في شكل دائري: نقود تخرج من الدول الصناعية إلى العالم الثالث سداداً لثمن النفط، ثم تعود إلى العالم المتقدم في شكل فوائض، أو ثمناً لسلع خاصة بالاستهلاك أو التنمية، وتعود النقود أو يعود جزء منها إلى العالم الثالث غير النفطي الذي اختلت موازينه وعانى عجزاً لم يعالجه إلا اللجوء إلى العالم الخارجي.
كانت الحاجة هي عنصر الجذب، وكان الفائض – سواء في الدول النفطية أو بنوك العالم الصناعي- هو عنصر الطرد.
وخلال الخروج الكبير للأموال من العالم الصناعي إلى الدول النامية برزت ظواهر مهمة:
– لقد تضاعف الاستثمار المباشر للبلدان الصناعية في الدول النامية عدة مرات.
– زاد الاستثمار المباشر، لكن أهميته النسبية تراجعت بشدة، وتقدّم الائتمان المصرفي، واحتلت القروض مراكز الصدارة.
لذا وحين حُصرت الاستثمارات والديون في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي اتضح البون الشاسع، فالاستثمارات الأجنبية المباشرة في الدول النامية غير النفطية لم تتجاوز 160 مليار دولار، بينما بلغ الدين الخارجي أكثر من 700 مليار دولار، وبما يعني أن الاستثمارات المباشرة لم تتخطّ ال17بالمئة من التدفق المالي الوارد لهذه المجموعة.
وبمزيد من التحليل يتضح أنه في مجال الاستثمار المباشر كانت هناك خمس دول رئيسية تصدر الرأسمال، وخمس أو ست دول رئيسية تستقبل هذه الأموال.
كانت هناك الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم نصف الاستثمار الجديد القادم من الغرب إلى الدول النامية كل عام، وكانت هناك الدولتان التقليديتان في هذا المجال: بريطانيا وفرنسا، ثم كانت هناك ألمانيا واليابان.. وسجلت الأخيرتان أرقاماً قياسية، فنمت استثمارات اليابان في الدول النامية بنسبة 21% سنوياً، بينما نمت استثمارات ألمانيا 17% سنوياً وذلك في أوائل القرن الحالي.
وعلى الجانب الآخر كانت هناك بلدان خمس، حصلت وحدها على الاستثمار المباشر (تستثنى الصين) وهي البرازيل وجنوب إفريقيا والمكسيك وسنغافورة وماليزيا. ولقد بلغت عائدات تلك الدول الصناعية من استثماراتها المباشرة أرقاماً تفوق بكثير الاستثمار الجديد، وبما يجعل الميزان لغير صالح الدول النامية من وجهة النظر المالية.
في التحليل النهائي نجد فروقاً بين الاتجاه للاستثمار المباشر، والاتجاه للإقراض، ففي الحالة الأولى تكون الفرصة أوسع للإسهام في التنمية، وتكون الفرصة متاحة لربح أكبر، ولكن مخاطره أشد، ودرجة أكبر من الاندماج والتأثير في اقتصادات الدول المضيفة.. أما في الحالة الثانية فالربح محدد، والمخاطرة أقل، والقرض في معظم الأحوال يمول نفقات عامة واستهلاكية، وعجزاً جارياً، ولا يمول مشروعات تنموية، إنه يساند وضعاً اقتصادياً وسياسياً، لكنه لا يخلق بنية اقتصادية يشتد عودها حتى تستغني عن الخارج.
لقد تبدل الثوب من استثمار تحرسه المدافع، إلى اقتراض تحرسه المناورات السياسية، وقد يتبدل لاحقاً، ولكن بقي ما يحذر منه بعض رجالات الاقتصاد في المنظمات الدولية والدول الصناعية، وهو أن تحويل المصارف سوف ينكمش، والدول النامية سوف تواجه مأزقاً إذا لم تبحث عن بديل في المزيد من تشجيع رأس المال.. وربما يسأل البعض: وهل هناك، على صعيد القوانين والتعهدات والتنازلات، ما يمكن أن تقدم منه الدول النامية المزيد؟
لكن السؤال الأهم، إذا كان المطروح عند هؤلاء هو المفاضلة بين الاستثمار المباشر أو الاقتراض، السؤال الأهم هو: أليس من سياسة أكثر رشداً تزيد اعتماد الدول النامية على الذات وتقلل احتياجاتها إلى الغير؟!
أظن تلك هي القضية، وليست القضية استثمارات وقروضاً!